على رغم أن رواية الكاتب المصري محمد الشاذلي «عشرة طاولة» (الدار المصرية - اللبنانية) قليلة الصفحات إلا أنها تغرق في التفاصيل وتوغل في الوصف. وهي سمة تليق بأبطالها من لاعبي النرد الذين يؤمنون بأنهم مسيَّرون وليسوا مخيَّرين، ولذا فليس عليهم إلا أن يتركوا أنفسهم لتصاريف الحياة المفعمة بالأشياء الصغيرة والهامشية والعابرة، محصورة أقدارهم ومعلقة بين ثورتين، لا ينشغلون بهما طويلاً. شخصيات عادية تجد سلوتها في لعبة النرد (الطاولة) وحولها تثرثر عن أوجاعها الخاصة وإشغالاتها العامة، ابتداء من مشاكل الأزواج ومتاعب ما بعد التقاعد إلى ما فعلته ثورة يناير بالمصريين والطريقة التي تحكم بها جماعة الإخوان. وهي في العموم شخصيات متناثرة لا يربطها سوى الولع بالنرد إلى درجة أن أحدهم يبحث عن أصل اللعبة وتطورها والمعاني الكامنة خلفها وموقف الدين منها. تبدو الرواية، وهي الأولى لمؤلفها بعد مجموعتين قصصيتين، في بنيتها ومضمونها عبارة عن ثلاث دوائر متلاحقة ومتفاوتة في مساحتها، أولاها هي عالم المقهى حيث يجلس بعض الأصدقاء حول النرد في منافسة لا تنقضي، أو لا يريدون لها أن تنتهي، وهم يشنّفون آذانهم إلى صوت «أم كلثوم»، والثانية تتعلق بالتجربة الحياتية للبطل وما تلده من حكايات صغيرة في تفاعله مع الأصدقاء والمعارف، رجالاً ونساء، أما الثالثة فترتبط بالسياق السياسي والاجتماعي وكل ما يفرزه من قضايا صغيرة وكبيرة، وما يلقيه من حمولات على حياة الناس التي تراوح بين أتراح مقيمة وأفراح هاربة. وتتشابه الرواية في مسارها أو خط سردها مع تلك العملية العشوائية أو الاعتباطية التي تسيطر على لعبة النرد، فالحكي يبدو غير مدبر، إنما عفوي يستسلم له السارد أو الراوي العليم ويطلقه «عفو الخاطر»، وكيف له ألا يفعل هذا وبطل الرواية ينظر إلى العالم كله على أنه «لعبة كبيرة» وتبدو علاقته بالحب والسياسة سطحية وعارضة، فها هو يقول: «أكد لي الأستاذ عبدالله أنه من خلال أبحاثه ودراساته المتعمقة يجد الكون كله في الطاولة، فالأبيض والأسود لوناً القواشيط هما الليل والنهار في حياتنا، وثلاثون حجراً عدد قواشيط الطاولة، هي عدد أيام الشهر، أما عدد خانات الطاولة فأربع وعشرون، كعدد ساعات اليوم الواحد». وينسحب الأمر على مستوى أدنى، إذ هناك من «يلعب ثورة» وهناك من يقول تعقيباً على ما فعلته الثورة بالبلاد: «مصر كلها باتت تلعب واحد وثلاثين الآن». ويتكرر الأمر مع ذلك الذي يتساءل: «لماذا اختفت المحبوسة وصارت مصر كلها تلعب واحد وثلاثين؟». بطل الرواية «رجائي متولي» متزوج ويعول، ويقف على مشارف الخمسين من عمره، ويعمل موظفاً في مصلحة الضرائب، وتسيطر عليه نفسية لاعب النرد الذي قد يأتيه ما يريد عند أطراف أصابعه من دون جهد منه ولا اجتهاد. فالحظ يوقعه في «آلاء» الجميلة المطلقة ليخوض مغامرة حب خفيف، غير معني بما سيؤول إليه حاله معها، فيما هي لا تتوقف لتفتش داخلها عن التناقض بين تصوفها وتحررها. ثم يوقعه في «سحر»؛ فتاة الإعلانات التي تسعى وراء العشق ورأسها مملوء بصورة نجمات السينما الشهيرات، ومعها تأتيه الفرصة ليكون «ممثل إعلانات» رغم أنه لم يكن ينتظرها. وحين يدير البطل عجلة الأحداث نصل معه إلى شخصيات مختلفة المشارب والاتجاهات، مثل صلاح أبو الخير؛ وهو رجل ميسور الحال يعيش في مدينة صغيرة شرق القاهرة، وينتظر الجميع أن يدعوهم في بلدته ليلعبوا «عشرة طاولة»، وعبد الله سعيد؛ وهو المدير العام السابق، رأسه مشغول بالمشكلات الحياتية لأبنائه وحفيدته، وينتظر الموت في رضا، محلقاً في تصورات ورؤى شبه خيالية، يجد فيها السلوان. وهناك «تامر»؛ الشاب الذي تم تسريحه من العمل بعد الثورة، وعبد الرحيم مرسي الذي كان زميل البطل في كلية التجارة، وصار منافسه في لعبة النرد، و «عاطف» مريض القلب الذي لا يريد أن يعترف بمرضه، ويمارس عربدته من دون تغيير، و «كمال» المتزمت رفيق السفر، و «خالد» المتفلت غير المبالي، و «معتزة» الحبيبة القديمة للبطل، وعزت نجم أستاذ الطب البيطري، و «إيهاب» الشاب الذي يقود التظاهرات ضد حكم الإخوان ويجمع توقيعات الناس لإسقاطهم. ووسط الانشغال باللعب، الذي يمثل جوهر هذه الرواية، يأتي الانشغال بالثورة عابراً ومحافظاً إلى حد بعيد، ولا نراه إلا في نقاشات دارت بين شخصيات الرواية حول حكم جماعة «الإخوان» حين التقوا بعض شباب حركة «تمرد» أثناء زيارتهم لبلدة بلبيس في محافظة الشرقية، مسقط رأس الرئيس المعزول محمد مرسي، لكن النقاش لم يلبث أن يغرق في اللعب من جديد، لتتوارى السياسة في خلفية المشهد. ربما تريد هذه الرواية، المقتصدة جداً في البلاغة والشاعرية، أن تضع «المقهى» في مواجهة «الثورة»، و «اللعب» في مقابل «الاحتجاج»، وتستبدل «حزب الكنبة» ب «حزب الطاولة»، وفق تعبير «آلاء»، وينحاز المؤلف إلى أن ما يغلب على الناس في نهاية المطاف هو الانشغال بالتفاصيل اليومية التي تدور حول ما يقيم أودهم ويحقق لهم مباهج صغيرة متتابعة. وربما تريد أن تقول إن الأحداث الكبرى والفارقة، حتى لو كانت بحجم ثورة جائحة، ليس بوسعها أن تأخذ بألباب الجميع، إيماناً بها ومنافحة عنها وانخراطاً فيها، وليس بمقدورها أن تخلق إجماعاً حولها لا سيما إن تعثرت أو دخلت في طريق متعرجة. ويبدو أن وجهة نظر عبدالله سعيد هي التي تسيطر على موقف الراوي من الثورة، إذ يقول: «نحن نحول كل شيء إلى احتفال، لذلك لن يترك المصريون الثورة، سيمارسونها مدة طويلة، ولو من دون هدف، وسيبدعون في احتفالاتهم وجُمعاتهم ووقفاتهم، ولولا الدماء لكان الأمر أكثر مرحاً وابتهاجاً». وإذا كانت الغاية هي تحصيل البهجة فلماذا لا يسعى البعض إلى بلوغها في فعل آخر غير الثورة، وهو اللعب والاستسلام لما تأتي به الحظوظ، وربما تكون هذه هي الرسالة الكامنة في الرواية.