عندما حصد الفيلم الإسرائيلي «لبنان» جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي السادس والستين أخيراً، كان مثقفون وسياسيون مصريون منغمسين مجدداً في جدل حاد حول جواز المشاركة في مهرجان سينمائي آخر في تورنتو. أثير الجدل بسبب اختيار تل أبيب للاحتفاء بها في إطار برنامج «مدينة لمدينة» الذي يُنظم سنوياً ضمن فعاليات المهرجان. وهذا جدل يُعاد إنتاجه منذ سنوات طويلة بالطريقة نفسها حول قضية التطبيع. فما زال التوافق غائباً حول بعض جوانبها، على رغم وجود تفاهم عام على أن أي نوع من اللقاءات أو التعاون المباشر مع إسرائيليين يعتبر تطبيعاً. وقد أصدرت النقابات المهنية المصرية كلها تقريباً قرارات تحظر هذه اللقاءات. ومع ذلك ما زالت لقاءات مع إسرائيليين تثير جدلاً لا يخلو من حدة، مثلما حدث عقب استضافة رئيسة تحرير «مجلة الديموقراطية» التي تصدرها مؤسسة «الأهرام» الدكتوره هالة مصطفى السفير الإسرائيلي في مكتبها. لكن الخلاف يكون أكثر حدة في شأن ما لا يوجد اتفاق على اعتباره تطبيعاً كالمشاركة في منتديات دولية تحضرها إسرائيل. وباستثناء المؤتمرات الدولية المتعددة الأطراف التي يحقق غياب العرب عنها مصلحة إسرائيلية، بقي الجدل مثاراً حول منتديات دولية تحظى فيها إسرائيل بحضور مميز وليس عادياً، كمهرجان تورنتو السينمائي. وظل الخلاف، بالتالي، على المشاركة العربية في مثل هذه المنتديات وهل تعتبر تطبيعاً ينبغي تجنبه أم دفاعاً عن الحق الفلسطيني – العربي يجب الحرص عليه. وفي غياب تعريف جامع مانع للتطبيع، ينفلت الجدل ولا ينتهي إلى نتيجة إلا تراجع بعض من اعتزموا المشاركة وبقاء آخرين. وهذا هو ما حدث في شأن تورنتو، فتراجع منتج فيلم «هليوبوليس» وانسحب من المهرجان قبل أن يبدأ، فيما حافظ مخرج «شهرزاد» على موقفه المبني على مقاومة إسرائيل بمنافستها على الساحة الدولية لأن المقاطعة تخلي لها الساحة. ولأن صاحب هذا الموقف (يسري نصر الله) يساري مصري معروف بدفاعه المتواصل عن الحقوق الفلسطينية، منذ أن كان أحد قادة الحركة الطلابية في السبعينات من القرن الماضي، كانت مهمة المطالبين بمقاطعة تورنتو صعبة، بخلاف من حملوا على رئيس تحرير مجلة «الديموقراطية» التي خرقت قراراً صريحاً لنقابة الصحافيين يستند الى توافق واسع ويحظر عقد أي لقاء مع إسرائيليين. ولذلك فبينما كان سهلاً لمهاجميها إدانتها من دون مواربة، لم يملك بعض ناقدي نصر الله إلا الإقرار بأن موقفه المبدئي لا يحتمل التشكيك فيه. لذلك بدت مجادلاتهم متناقضة داخلياً عندما اعتبروا مشاركته في المهرجان تطبيعاً مذموماً وأشادوا في الوقت نفسه بموقفه الحميد غير القابل للالتباس وفق ما ورد في أحد بياناتهم.وليست هذه المرة الأولى يحدث فيها ذلك. ولهذا بدا الجدل حول مشاركة «شهرزاد» في تورنتو كما لو أنه سيناريو قديم مثير للملل يتكرر من دون جديد. وقد أُعيد إنتاجه في شأن مهرجان سينمائي هذه المرة، بعد عام وبضعة أشهر على إنتاجه السابق. كان ذلك في ربيع العام الماضي حين عُقد معرضا باريس وتورينو الدوليان للكتاب في آذار (مارس) وأيار (مايو) 2008 على التوالي. ولأن إسرائيل كانت ضيف الشرف فيهما، أُثير الجدل حول جواز المشاركة من عدمها. فقد بدأ الجدل حول معرض باريس. وما كاد يلفظ أنفاسه، حتى أُعيد مجدداً من حيث بدأ حول معرض تورينو، وبالحدة نفسها تقريباً على رغم أن عدم جدواه في شأن معرض باريس كان واضحاً. ويلعب الإعلام الخاص الناشئ مقروءاً ومرئياً دوراً رئيسياً في تسخين هذا الجدل، إذ يعالجه باعتباره مادة قابلة للإثارة التي تشتد حاجته إليها في غياب حوار جاد حول قضايا حقيقية، وبسبب صعوبة خلق مثل هذا الحوار لأسباب تتعلق بالمستوى المهني والمناخ العام في بلادنا العربية. فما كان لجدل كهذا أن يتواصل لسنوات طويلة إلا في وضع غير طبيعي تسوده ثقافة مجتمعية لا تعرف إلا «حوار الطرشان»، وتميل غالباً إلى التبسيط. لذلك تُحدث الدعوة إلى مقاطعة منتديات دولية تحظى فيها إسرائيل بحضور مميز ضجيجاً تتردد أصداؤه على رغم أن التجربة أثبتت ضررها وليس فقط عدم جدواها. فالمقاطعة وسيلة وليست غاية. وهي، من حيث المبدأ، سلاح احتجاجي مشروع يلجأ إليه من يقع عليهم ظلم أو تُنتهك حقوقهم. ولا خلاف على أن الاحتفاء بدولة تصر على عنصريتها، وتتمادى فيها إلى حد إعلان نفسها دولة دينية لا تتسع لآخر، ينطوي على تواطؤ مع ظلم تاريخي مبين. ولكن المقاطعة لا تفيد في مواجهته، وإنما تمثل هروباً ورضوخاً لأمر واقع. أما مقاومة هذا الواقع سعياً إلى تغييره فلا تكون إلا بالحضور وتسجيل الاحتجاج عبر نشاطات ثقافية قوية ومقنعة وليس فقط بإعلان موقف أو إصدار بيان. وإذا كان أدباء وفنانون عالميون يعبرون عن احتجاجهم على الاحتفاء بإسرائيل عبر مقاطعة المنتديات التي تكرمّها، مثلما فعل المخرج كين لوش والكاتبة نعومي كلين والفنانان الممثلان داني جلونز وجين فوندا إزاء مهرجان تورنتو، فهم ينطلقون من الحاجة إلى تصحيح سياسات تتبناها حكومات بلادهم. لذلك يعبر موقفهم عن الحق، ولا يخلو من الجدوى. فهم ليسوا مطالبين بخوض معركة على كل صعيد دفاعاً عن الحق الذي اهتدوا إليه، بخلاف العرب. ومعركة كهذه إنما يخوضها أصحابها بحضورهم، وليس بالغياب. ولنا في ما حدث سابقاً عبرة. فكم كان المشهد موحياً بعجز العرب، وربما مرجحاً لرأي من يتحدث عن خروجهم من التاريخ، عندما تركوا الاحتجاج في تورينو وباريس في العام الماضي لغيرهم. أدى يساريون إيطاليون شيئاً من الواجب الذي هرب منه العربي في تورينو عبر رسوم غطت الكثير من جدران المعرض تنديداً ب «هولوكوست فلسطين» وندوات ولقاءات حملوا فيها على استضافة دولة تمارس عقاباً جماعياً ضد شعب بأكمله. وغطى فرنسيون يهود – نعم يهود – غياب العرب عن معرض باريس، إذ نظم «الاتحاد اليهودي – الفرنسي من أجل السلام» نشاطات احتجاجية ضد استضافة إسرائيل. وبدا هذا الاتحاد كما لو أنه يلقن عرباً غائبين عن الوعي، وليس فقط عن المعرض، درساً عميقاً عندما أعلن أن مشاركته تمثل مقاومة لعملية التزييف المتضمنة في الاحتفاء بدولة ترتكب جرائم وتمارس عقاباً جماعياً. ولكن أهل المقاطعة، الذين لم يدركوا ذلك، لن يستوعبوا أي درس من فوز إسرائيل في مهرجان البندقية السينمائي، بينما كان كثير من السينمائيين في مصر منغمسين في جدل عقيم.