لا شكّ أن منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، في كل أماكن وجوده، ولكن ما الذي يعنيه هذا الكلام اليوم؟ أو ما الذي تفعله هذه المنظمة حقاً؟ وماذا تبقى منها؟ وكيف تمثّل الفلسطينيين؟ وكيف تعبّر عن تمثيلها لهم؟ معلوم أن الفلسطينيين دفعوا باهظاً كي تصبح هذه المنظمة عنواناً لهم، وبمثابة كيانهم السياسي، وإطارهم الجمعي، لكنها كفّت عن كونها كل ذلك، أقلّه منذ عقدين، أي منذ إقامة كيان سياسي فلسطيني في الضفة والقطاع المحتلّين. المفارقة أن هذا الأمر لم يحصل بسبب تراجع الأنظمة العربية عن الاعتراف بالمنظمة، أو لأن إسرائيل استهدفتها، أو لأنها استنفدت أغراضها، أو لأن الشعب ما عاد راغباً فيها، وإنما بسبب تحول القيادة الفلسطينية من قيادة حركة تحرر إلى سلطة، ما نجمت منه تغيرات نوعية، في مبنى ومعنى الحركة الفلسطينية، لا سيما في خطاباتها، وأنماط عملها، وشكل علاقاتها مع شعبها، ورؤيتها لذاتها. هكذا تحول المناضلون موظفين، والمقاتلون شرطة في الأجهزة الأمنية، ولم يتبق شيء اسمه الكفاح المسلح، بعد التحول نحو خيار المفاوضات، واختزال التحرير بمجرد إقامة دولة لجزء من الشعب على جزء من الأرض. لذلك فالطبقة السياسية المهيمنة على المنظمة والسلطة وفتح، هي المسؤولة عن هذه التحولات، وضمنها تهميش المنظمة، أو تغييبها، لمصلحة السلطة. منذ البداية، كان بإمكان القيادة الحفاظ على مكانة المنظمة التمثيلية والكفاحية، ودورها في تعبئة طاقات الفلسطينيين، بالنأي بها عن الانخراط في عملية تفاوضية، مجحفة وغير متكافئة وجزئية، وترك الأمر للوفد المفاوض، المتشكّل من فلسطينيي الأرض المحتلة، لكنها لم تشأ اعتماد هذا الخيار، خشية تبلور مركز قيادي آخر كانت الانتفاضة الأولى تعد به، ما يهدد مكانة قيادة المنظمة، مع أن هذه الخشية لم تكن مبررة، نظراً إلى أن الوفد ظلّ يؤكد دوماً تبعيته لها. المهم أن النتيجة كانت خسارة من كل النواحي، فالفلسطينيون لم يحصلوا على اتفاق أفضل، مع توقيع قيادتهم على اتفاق أوسلو (1993)، المجحف والناقص، وفوق ذلك ضاعت المنظمة، ولم تقم الدولة. فقط ثمة كيان هجين يتمثل بسلطة تحت الاحتلال، مع علم ونشيد ومراسم وموازنات وأجهزة أمنية وتمثيل ديبلوماسي. الأنكى، أن تغييب المنظمة ما كان اضطرارياً، بمقدار ما كان خياراً سياسياً تتحمل مسؤوليته القيادة التي فضلت عدم الفصل بين المنظمة والسلطة، للاعتبارات الخطأ ذاتها، أي تجميعها مركز القيادة في يدها، ولو بثمن القضية الوطنية. في المحصلة شكّل انحسار مكانة منظمة التحرير تعبيراً عن إزاحة الرواية الفلسطينية الأساسية، التي تحتل فيها قضية اللجوء، أو النكبة، مكانة مركزية، وانعكاساً لتخلّي الطبقة السياسية المهيمنة عن «حق العودة»، وإخراجها مجتمعات اللاجئين من المعادلات السياسية الفلسطينية، الأمر الذي بات يزعزع معنى الهوية الوطنية، والكيانية السياسية، والأهداف الجمعية للفلسطينيين، وحتى تضامنهم المشترك بعضهم مع بعض. وقد تبدّت أخطار كل ذلك أخيراً، في كيفية تعاطي القيادة الفلسطينية مع مأساة فلسطينيي سورية التي تراوحت من التنكر إلى اللامبالاة إلى إبداء بعض مظاهر العطف، ما انعكس أيضاً على ضعف تضامن مجتمعات الفلسطينيين الأخرى معهم. لكن هذا الوضع، الذي بات يؤثر سلباً على رؤية الفلسطينيين لأحوالهم، تم تداركه، إلى حد ما، بفضل حيوية مجتمعات الفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات، وبفضل مبادرات قطاعات الشباب التي أثمرت أشكالاً من التضامن المعنوي والمادي مع فلسطينيي سورية، في المجالات الإعلامية والإغاثية، وعوّضت عن غياب منظمة التحرير، ولامبالاة معظم الفصائل التي تنضوي في إطارها. وإلى تكلّس الأطر السياسية السائدة، وتقادمها، يمكن الحديث عن مشكلتين تواجهان أي محاولة لتخليق فضاء عام فلسطيني جديد. الأولى تكمن في تمزّق مجتمع الفلسطينيين، وغياب الإقليم الموحد والمستقل، وخضوعهم إلى أنظمة سياسية وقانونية مختلفة. أما المشكلة الثانية فتنبع من الغياب الملحوظ للبرجوازية الفلسطينية التي يبدو أنها استقالت من لعب أي دور، منذ هيمنت فصائل المقاومة على الحقل السياسي الفلسطيني. هكذا، حتى الآن، لا توجد جريدة فلسطينية مستقلة، ولا محطة إذاعة، ولا قناة تلفزيونية، ولا جامعة، ولا مركز أبحاث، علماً أن ثمة رجال أعمال فلسطينيين كثراً يملكون الإمكانيات، ولا يعوزهم الخيال، ولا الوطنية، لتقديم بعض إمكاناتهم في سبيل استنهاض أحوال شعبهم. الآن، وبدلاً من الركون إلى هذه الأوضاع، على سلبياتها، جرى الاستثمار فيها، بإيجاد نوع من فضاء فلسطيني، أتاحته وسهّلته شبكات التواصل الاجتماعي، وفرضته تطلعات الشباب الفلسطينيين، وتوقهم إلى تعزيز التواصل والتفاعل بينهم، مدفوعين بحيوية قضيتهم، وبحماستهم للتعبير عن ذاتهم. أما بالنسبة إلى البرجوازية، ومع تفهم صعوبة بروز دور مستقل لها، لأسباب ذاتية وموضوعية، بخاصة أنها لا تشتغل في إقليم خاص، أو في إطار تشكيلة اقتصادية اجتماعية واحدة، فإنها معنية بمراجعة دورها، وبلورة حالات معينة تشتغل في العمل العام أو لمصلحته. واضح أن مجتمعات الفلسطينيين، في الأراضي المحتلة، وفي بلدان اللجوء والشتات، وفي ضوء ضياع منظمة التحرير، أو تهميشها، باتت في مواجهة تحدٍ يتعلق بتصدّع هويتها الوطنية، وتآكل كيانيتها السياسية، وهو ما حاولت الحديث عنه في مقالتي: «نحو هيئة عامة لسد الفراغ التمثيلي عند الفلسطينيين» («الحياة» 4/2). وبديهي أن هذا الحديث ليس دعوة إلى إيجاد بديل عن منظمة التحرير، بمقدار ما هو دعوة إلى ترميم حال التصدع، وسد الثغرة الناجمة عن تغييب وتهميش المنظمة، ومن أجل تجديد حيوية العمل الفلسطيني. ولعل ما ينبغي أن نتنبّه إليه، هو حقيقة أن الزمن الفصائلي انتهى، بما له وما عليه، ليس لأن أحداً ما قرّر أن يقول ذلك، وإنما لأن معظم الفصائل لم يعد لها وجود، لا في ميدان الصراع ضد عدوها، ولا عند شعبها، ناهيك عن تقادمها واستهلاكها. والمعنى أن الفلسطينيين بحاجة ماسة إلى كيان سياسي يعبر عنهم ويمثلهم، سواء كان اسمه منظمة التحرير أو أي اسم آخر، طالما أن المنظمة استقالت أو أقيلت من دورها.