- في استعادة ما يمكن وديسمبر يأتي. وسيبدأ ديسمبر يا عُمرْ.. شهرُ أعيادِ الميلادِ التي تقفُ على حافة العالم، والعودة من بيوت الأصدقاء مشياً، ورمي الهدايا في البحيرةِ التي ستتجمد غداً وتخفي في داخلها كلَّ شيءْ. ستمرّ في طريقكَ بالطحالب التي علقتْ في الجسر الخشبي الصغير الذي يتكسّر صدره كلما مشيتَ عليه، وسترتجف كثيراً لأن الباص الذي انتظرتَه طويلاً يمر بجانبك الآن، لكنه في الاتجاه المعاكسِ لمنزلك. سيبدأ غدا يا عُمَرْ.. شهرُ الليلِ الطويلِ الذي يحمل إليك وجهكَ، والمشردين الذين لا ينظرون إليك حين تمر، والأواني التي تجلس قبالتهم مفجوعة بالصمت والكسر، وغاصّة بالثلج الذي كان يُفترض أن يكون نقوداً قبل أن تُمطر. ستمرّ بنوافذ السكنِ الجامعي التي تضيء في البنايات الأسمنتية كعيون القطط في الليل.. يجلس خلفها طلاب يكتبون رسائل مختصرة إلى أمهاتهم، وطالبات ينتظرن القمرَ ويدلين باعترافات ليلية لأول بريدٍ إلكتروني يصلْ. ستتحدث عن الأشجار يا عُمَرْ.. ستقول إنها مهيبة وجليلة في ليالي الشتاء، إنها لا تتركُ مكانها، إنها تسمع العواصف الرعدية التي تضرب رأسها كل فجر دون أن تتشظى، إنها تعرف كثيراً عن الحفلات الراقصة التي يحييها طلاب شرق آسيا كل جمعة مستدّلين على عنوان منزلك بالشجرة، لكنك لن تقول لي أبداً إنني كنتُ تلك الشجرة، وإنكَ البذرة التي لن تنبتَ أبداً. البذرة التيلا تنزل إلى الأرض. سيبدأ غداً يا عُمَرْ.. الشهرُ الذي يكتب فيه الجميع عن ذكرياتهم التي كانت أحلاماً، وصورهم التي كانت أصلاً، وأصدقائهم الذين تحنطوا في ذاكرة الجوال، وعن النجوم التي عشقوها قبل أن تصبح حقائب يجرّونها على السلالم المتحركة في المطارات وغرف التفتيش وسيارات الأجرة. وسيقرأ كثيرون أيضاً يا عُمَرْ.. سيقرؤون سيرتكَ الذاتية في مؤتمراتٍ لا يستطيع فيها أحدهم أن ينطق اسمك دونَ أن يُشعِركَ أنه ليس لك. وسيتذكرونكَ فقط بلون عينيك العربيتين، وبالشامة الصغيرة التي ورثتها لك جدتك قبل أن ترحل عن جنوبِ الله البعيد. سيبدأ غداً يا عُمر.. الشهرُ الذي أعلنتَ فيه حدادك على الأغاني، وعزاءكَ في الشِعرِ، ولحظة صمتك الأولى على العُمر الذي لا تعرفه إلا في كرتِ العائلة وبطاقات التأمين الطبي والغلاف الأول للكتب المستعملة والمعارة موقتاً. منذ الليلة سينام الناسُ مبكرين يا عُمَرْ.. سيذهبون إلى أسرّتهم كما يذهب الواحدُ منا إلى ذاكرته. سيشتري الأبُ قليلاً من الخبز وأدوية السعال، سيتأكد من عدد أطفاله في البيت، وسينام قبل أن تنفرد به روحه التي انفصمت عنه منذ زمن وتكثّفت في سقف الحجرة. وستغلق المرأةُ بابَ الفناء الخارجي، ثم باب البيت، ثم باب غرف النوم التي أودعت فيها أطفالها، ثم ستغلق على نفسها باب الغرفة، ثم ستغلق قلبها قبل أن تنام. أما أنت فتقضي ليلكَ على شواطئ ميامي الصاخبة يا عُمَر.. مع مدنٍ لا تنام، وجُزرٍ متناثرة تشع على ساحل فلوريداالجنوبي كما تلمع حبات الكريستال اللؤلؤية في فستانِ سهرةٍ أسودْ. الرملُ خفيفٌ طريٌ أبيضْ، وخطوُ قدميكَ ينحفرُ في الشاطئ ثم يتلاشى، كما لو كان تراباً من مبشور الذهب، والليلُ أحمر مضيءْ، والسماءُ قريبة منصتة، وأمواجُ البحرِ تذهب بقلبكَ وتجيء، والفنارُ البعيدُ ينادي الدمعَ في عينيكَ ويختفي. لكنه ديسمبر يا عُمَر.. الموسمُ الذي تختصرُ فيه صوتكَ، وتختار بعناية شديدة ما يمكن أن يبقى معك وما يجب أن يرحل، وتشتري مظلاتٍ كثيرة تنساها دائماً في محطة المترو السفلي، ويعيدها إليك السائق في كل مرة تفكّر فيها أن رأسكَ مظلة لوجع طويل يغيب ويعود.. يعودُ بنفسه دون أن يبحثَ عنه أحد. * قاصة ومترجمة سعودية.