جديد جولة كريستوفر روس إلى منطقة الشمال الإفريقي، أنه لا يحمل اقتراحاً، بمقدار ما سيكشف وسائل تفعيل خطة ديبلوماسية هادئة، تتوخى فتح ثغرة في جدار الخلافات السميكة. وأبرز مؤشراتها أنه جعل الرباط محطة أخيرة في جولته التي شملت الجزائر ومخيمات تيندوف وموريتانيا. أي أنه يرغب في إدارة المفاوضات من نقطة النهاية، وليس البداية كما فعل في جولات استكشافية سابقة. كانت البداية تخص امتزاج الرأي، إزاء الإمكانات المتاحة لتقديم الرباط تنازلات جديدة، من خلال توسيع دائرة المفاوضات العالقة لتشمل شخصيات صحراوية، من غير الوفود الرسمية، إضافة إلى زيارة المحافظات الصحراوية للتعرف على خيارات ممثلي السكان وفعاليات المجتمع المدني. وانتهت إلى قناعة أن الحكم الذاتي يعتبر سقفاً لا يمكن تجاوزه. لكن في الإمكان تطويره، في مقابل القبول به أرضية وحيدة ومرجعية لا بديل منها في أي مفاوضات. تحقق بعض من ذلك، لكن أزمة عدم الثقة تراوح مكانها. فالمشكل ليس قائماً بين سكان المحافظات الصحراوية الذين يدينون بالولاء للسلطة المركزية وبين العاصمة الرباط، وإنما انفلتت تداعياته أمنياً وسياسياً لتنحصر في الركن الضيق للأزمة المغربية - الجزائرية. ولئن كان النزاع في جوهره اندلع على مقاس خلافات البلدين، المتشعبة الاتجاهات والمسالك، فإن فترات الانفراج الثنائي مكنت الأممالمتحدة من تحقيق خطوات مهمة، وعلى عكس ذلك كلما دخلت هذه العلاقات نفقاً مظلماً انسدت الآفاق مع أي حل محتمل لقضية الصحراء. لا يهم إن كانت الجزائر تقول إنها ليست طرفاً، بينما تتمسك الرباط بأنه لولا دعم الجزائر لجبهة «بوليساريو»، لما ارتدى المشكل الطابع الذي سار عليه، فمن دون حدوث انفراج نسبي أو شبه كامل، لا يستطيع من يقترب من النار الحارقة للملف أن يتوافر على وسائل الإطفاء التي ترتضيها الأطراف كافة. وهذا الواقع المفروض بقوة التجاذب، لم يعد ممكناً في غضونه البحث عن مخرج وفاقي قابل للحياة، من دون المرور من بوابة شكل من أشكال الوفاق الغائب بين البلدين الجارين المغرب والجزائر. مصدر الأتعاب في نزاع الصحراء أنه انطلق من فرضيات الأطراف المعنية، بدل أن يبقى في إطاره التاريخي والقانوني، ضمن ملفات تصفية الاستعمار بين المغرب وإسبانيا، المستعمر السابق للمحافظات الصحراوية. فقد انجذبت الأطراف الإقليمية لهذه الصيغة التي بدت في حينها مقبولة لحشد ضغط أكبر على السلطات الإسبانية. غير أنه لم تكد مدريد تسحب إدارتها وجيشها، حتى تحولت لعبة الأطراف المعنية إلى حاجز كبير. تعاركت القوات المغربية والجزائرية في منطقة «أمغالا» في عمق الصحراء مرتين على الأقل، واستمرت حرب الصحراء بين القوات المغربية ومقاتلي «بوليساريو» المدعومين من الجزائر نحو 15 سنة. وعندما حان موعد التسوية السياسية التي بدأت بإقرار وقف النار والبحث في تسوية نهائية ترعاها الأممالمتحدة، ألقت الأطراف المعنية بثقلها مرة أخرى. ولعل التطورات البارزة في هذا المجال أن عواصم غربية وازنة، مثل واشنطن وباريس ومدريد وغيرها باتت تتحدث بدورها عن صيغة الأطراف المعنية التي كان اقترحها الوسيط الدولي جيمس بيكر في توصيف أطلق عليه اسم الطرفين المباشرين، أي المغرب و»بوليساريو»، والطرفين غير المباشرين، الجزائر وموريتانيا. عندما انطلقت جولات المفاوضات المباشرة في مانهاست الأميركية عام 2007 تحلقت حول طاولتها الأطراف الأربعة، وإن اقتصر حضور الجزائر وموريتانيا على جلسات الافتتاح. ثم آلت قرارات مجلس الأمن ذات الصلة إلى أن تطلب إلى الأطراف التعاون في ما بينها ومع الأممالمتحدة لإحراز التقدم المطلوب. ومن غير الوارد وفق هذه المقاربة التي تشكل مرجعية دولية وقانونية تصور أي إنجاز كبير من دون توافق الأطراف كافة. ما يفسر كيف أن جولات الموفد الدولي كريستوفر روس لم تلغِ أي محطة من هذه الأطراف. إذا كان صحيحاً أن مرجعيات القرارات الدولية تتحدث بهذا الإطلاق الذي تكثر حوله التأويلات، إزاء المسؤوليات القانونية والسياسية، فإن مفهوم «الحل السياسي» الذي ترعاه الأممالمتحدة، لا يسلم بدوره من جدلية التأويل. مع أنه لو أراد مجلس الأمن أن يتحدث صراحة عن العودة إلى خطة الاستفتاء لما احتاج إلى وسيط لشرحها، ولو لم يكن مقتنعاً بأهمية مبادرة الحكم الذاتي، لما وصفها ب «الجدية والصدقية». بين التأويل والواقع تضيع فرص وتزيد عقبات. لكن روس الذي بدأ تعاطيه مع الملف في ضوء الإصرار على بعده الإقليمي، لا يزال يواصل السير على الطريق نفسه. وفي كل مرة ُيخرج من قبعته صيغة أقرب إلى إرضاء الأطراف كافة. ولعله يزداد قناعة بأن أصل الأزمة أن لا حل لها خارج الوفاق الإقليمي الذي يعرف الجميع من أين يبدأ، لكن أحداً لا يستطيع الجزم متى وكيف وبأي ثمن.