رحل سعيد عقل، ومعه رحلت يوتوبيا شعرية بكاملها هي أقرب ما تكون في الشعر العربي من منحوتات ميكال أنج في عصر النهضة الأوروبية. وهي مؤسسة على معنى أن الجميل هو الجليل وهي فلسفة من القيم الجمالية التي تبناها الشاعر وعمل عليها في شعره بالفصيح وبالمحكية اللبنانية، وفي مسرحياته المعروفة خاصة مسرحية قدموس. عمل الرجل على الإيغال في ترميز اللغة وعلى خاصية الاشتقاق اللغوي بما يحمله من توليد ومزاوجة وتَآلف وتضاد في الكلمات والأصوات، ولكنه بقي أقل من غرابة السرياليين وأعلى من حيل البرناسيين، فتوليداته اللغوية هي اشتقاقات من حجر اللغة المحسوسة الملموسة الصائتة أكثر مما هي مشتقة من حجر الروح الغامضة والملتبسة. وهو إذ رفض الحداثة والحداثيين وما بعدهما، معتبراً ذلك نوعاً من الشعوذة، فلأنه كان يعتقد أن الجميل هو الأصيل وأنه لا يمكن أن يخرج من قبح الواقع جمال آخر في الشعر كما فعل بودلير مثلاً. وكما كشف أبناء بودلير من بعده حتى اليوم عن أحشاء الوجود بكل ما فيه من دم ووحول وغمسوا أقلامهم فيها وكتبوا كتاباتهم الصارخة والمجنونة، كان سعيد عقل معلماً لي في السنوات 1958 و1959 و1960 في دار المعلمين التكميلية في بيروت. ويوم كنّا طلاباً، كان سعيد عقل يومها ملكاً، وكان أستاذنا في اللغة العربية. وما رسمتُه له يومذاك، هو صورة ما، مكوّنة من خطوط لم يستطع أن يطمسها النسيان، مع ما طمس من ذكريات وأيام. ما يبقى من ذكرياتنا هو الذي يخضّ مخيلاتنا كما تخضّ الرياح مياه البحر، فتتوالد فينا الأمواج الى ما لا نهاية. سعيد عقل كان يومها في عينيه بحر. أزرق كالهذيان. ما كان هادئاً، ذلك الرجل الطويل الأزرق، أُسمّيه فتى الشِّعر الأزرق. كان كمن هو في نشوة مستمرة. يتدافع يتماوج يترنّح يمشي كما لو هو يرقص، ويتطاير فوق جبينه الشاسع شعرُهُ الذي مثله يتماوج وينتشر. أول ما دخل علينا بقامته المديدة، وجبينه المقطّب، وقفنا له متهيبين. وكان مسبوقاً بهالة الشعر قبل أن يحضر الى صفّ اللغة، ولا أذكر، ولو لمرّة واحدة، أنه سرّب إلينا سوى الشعر. جلس على الكرسي، في الغرفة تلك، الى الطاولة. جلس طويلاً وساكتاً، وينظر كما لو إلى لاشيء. عيناه الزرقاوان كانتا تلتهمان فراغ الصف. بل فراغ المكان بكامله. أخذتا تتسعان وتتسعان. بدأ الأزرق يتسع. ظهرنا كالمسحورين، الهمس القليل الذي بدأ خافتاً ما لبث أن اختفى. صمت شاسع وعينان زرقاوان باتساع الصمت. فجأة دقّ الأستاذ بجمع يده على الطاولة، دقّات، كدقّات عصا المسرح وقال: «دقّيتْ.../ طَلّ الورد عَ الشبّاكْ» هكذا كان بالضبط. هكذا حفر الرجل خطاً أول في الذاكرة لا يُمحى. كان ثمة في غرفة الصف، شبّاك أعلى من يد الأستاذ. لعله لم يكن شبّاكاً. لعلنا رأيناه في شِعره. وكان ثمة ورد في مزهرية في الشبّاك. ولعله لم يكن ثمة لا مزهرية ولا ورد. بل خُيّل لنا كل ذلك. وبدأ الشاعر يطل. وكالساحر، سمعنا منه، قبل أن تصدح فيروز بالأغنية، الأغنية: «.../ إنتِ وأنا/ يا ورد/ بهالكون رح نبكي». أذكر من سعيد عقل نكهة الكلمات. أصواتها، روائحها، أشكالها وهي تجري كخيول على الأفق السائل. أذكر ذاك الزواج الهائل لحروف اللغة بين يديه. كان عاقد زواج اللغة العربية الكبير. أذكر منه عطف الزاي على الهاء على الراء على الجيم على الميم على الراء... وأذكر «زهر الجمر» وشولوخوف وحيرته بينه وبين النهر. أذكر عطف اللام على الياء، وقسوة الدال الساكنة بعد الحاء. أذكر من الأستاذ حبّه وعلياءه، واجتاحتني منه مذذاك، ولا تزال، غريزة اللغة. كما أذكر أساطيره التي لا تُحدّ. فإلامَ كان يهدف فتى الفصاحة العربية الأخير، وآخر صنّاجات العربية الكبار، في مشروعه العجيب ذاك، في اللغة والوطن معاً؟ ليست لديَّ الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال. ابتكر سعيد عقل في شعره وكتبه («لبنان إن حكى» بخاصّة)، وطناً من المخيلة، وابتكر له تاريخاً من الماضي والحاضر، ورجالاً لا يصمدون أمام التحقيق التاريخي، بالمعنى العلمي للكلمة... لكن وطن سعيد عقل ورجاله من فلاسفة ومؤرخين وشعراء وعلماء وأبطال، يجب ألاّ يُعرضوا على محكّ الحقيقة التاريخية، بل على محكّ الحقيقة الشعرية. وشتّان بين الاثنتين، الفرق بينهما كالفرق بين الواقع والمخيلة، بين التأريخ والشعر. في منحدرات اللغة يعمل سعيد عقل في شعره، على الحروف والكلمات، كنوتاتٍ موسيقية أساسية للقصائد، حتى ليكاد كل حرف من الأبجدية يكون له منها نصيب. نأخذ حرف الحاء، وهو حرف صعب ونتأمل في إلحاحه في الشطر الآتي: «... في العلم تمرح والأحرار مُرّاح» (من قصيدة «سكرت بالعلم» في المخترع اللبناني حسن كامل الصباح، في ديوان «نحت في الضوء»). وفي مطلع قصيدة «أربعة...»: «حرفنا يا بَدْعَ قدموس أعْلُ نعلو/ بشعوب وعصور/ أنت إذ ألهمك العقل بصور/ وَلَدُ العقل». ألا يصحّ القول إن العين هنا هي مفتاح نغم القصيدة؟ مثل العين أختها الغين. يقول: «الغرب غنّى بها أن لا لِغيِّ غَوٍ»، وللسين، كما للشين أختها، أجراس. ولكل حرف من الأبجدية جِرْسُه. لكأن القصائد تمارين على موسيقى الحروف. بل لعل لكل حرف عنده سلطاناً. بل لعل سعيد عقل في الشعراء العرب المحدثين، هو أفضل من حقّق مقولة ابن عربي في حياة الحروف «الحروف أمم». وضع سعيد عقل يده على الكيمياء المستودعة في الحروف، وراح يلعب بها لعباً هو خطير أحياناً، بل واقف على أعلى مشارف الخطر. هو مولع بالنحت والتركيب. يشتقّ مثلاً من فعل «علا» فعل «اعلولى»، ومن فعل «زها» فعل «ازهوهى» ومن فعل «عَظُم» فعل «اعظوظم» ومن «غَرَب» «اغرورب» ومن «حَلِيَ» «احلولى»، ويدمج «ها إني» على «هاني» ويؤنّث كلمة «زمان» على «زمانة»، لأنها -على ما يقول- «أجمل»، ويناطح الصعب في الأوزان والقوافي، فتراه لاجئاً لأصعب القوافي الساكنة، وتلك التي يتوالى فيها ساكنان كقوله «ويك يا زندي تهيأْ أنت سيف»، وسواها كثير مما يقتضي حفظ النَّفَس في خاتمة كل بيت منها لا إطلاقه. وهو يلعب في المعمار الشعري كما يلعب في المعمار اللغوي. لعل ذلك، أي الحفر في اللغة، يقرّب بين المتنبي وسعيد عقل. ومثلما كان العالم اللغوي ابن جنّي شديد الدراية والإعجاب بشعر المتنبي، حتى أنه نسب للشاعر قوله «ابن جني أدرى بشعري منّي»، فإن العالم اللغوي الكبير الراحل الشيخ عبدالله العلايلي، هو من أكثر العارفين بشعر سعيد عقل والمحتفلين به.