كان ذلك في طهران حين رأيته للمرة الأولى شخصياً. في صالة الغداء التي يتوجه إليها مدعوو مهرجان «فجر» السينمائي، تناهى إليّ همس صحافيين فرنسيين فيما نظراتهم تتجه نحوه. «إنه صديق لأحمدي نجاد يدعوه باستمرار إلى إيران، يريد تمويل فيلم له...»، غمز أحدهم. كان الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في ولايته الأولى (2005 - 2009) يتعرض لموجة من الإدانة عالمياً، بسبب إنكاره وقوعَ المحرقة النازية التي راح ضحيتها ستة ملايين يهودي. وكان ينظم مؤتمرات في طهران يدعو إليها رجال دين من اليهود وغيرهم ممن يسايرون نظريته المناهضة «للصهيونية العالمية». كان الضيف الفرنسي الذي أثار همسات مواطنيه، هو «ديودونيه» الفنان الفكاهي المعروف بتقديمه نوعاً من عروض تنتشر في فرنسا حيث يقف بمفرده على المسرح ويقدم رؤيته الساخرة لظواهر اجتماعية. اشتهر «ديودونيه» الفرنسي ذو الأصل الكاميروني (47 سنة) في أوساط الشباب، بفضل مهارته وسخريته اللاذعة من العنصرية ضد العرب والسود، ومن الصهيونية والغزو الأميركي بكل أنواعه وتدخل فرنسا في أفريقيا... وذلك في جرأة لا تكترث بالخطاب السائد وبما يطلق عليه في فرنسا «اللائق سياسياً واجتماعياً». لكن انتقادات كانت بدأت تطاوله لمواقفه في اسكتشاته المسرحية التي بدأت تنزلق أكثر فأكثر نحو «معاداة السامية». إنما لم تكن تلك بعد، على درجة من الخطورة لتمنع إعلاميين معروفين من تحية الفنان أثناء مرورهم قربه، بل ومجاذبته بعض أطراف الحديث. هل كان هذا ليحدث اليوم؟ منذ بداية 2014 تشغل «قضية ديودونيه» في فرنسا الرأي العام. ففي السادس من كانون الثاني (يناير) الجاري صدر تعميم لوزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس موجه إلى محافظي المناطق، بمنع عروض «ديودونيه» في مسارح بلداتهم «لإخلالها بالأمن العام»، وبدعوى «مكافحة العنصرية واللاسامية». فالس اعتبر في حديث إلى صحيفة «نوفيل أوبسيرفاتور» اليسارية، أن «ديودونيه ليس فناناً ساخراً بل هو خصم للديموقراطية»، وأن عروضه لم تعد تنتمي إلى الإبداع الفني بل هي «اجتماعات سياسية تقدم خطاب الكره». ووصف حركة «الكُنل» التي يحيي بها «ديودونيه» جمهوره والتي باتت توقيعاً له واتخذها الشباب المتمرد والكاره للنظام رمزاً له، بأنها «تحية نازية مقلوبة». أثار التعميم ردود فعل متفاوتة لدى السياسيين والإعلاميين وعامة الفرنسيين. واعتبر رئيس الجمهورية فرنسوا هولاند، وفق صحيفة «لو فيغارو»، أنها ليست «قضية شخص أو ظرف، بل قبل كل شيء قضية مبادئ الجمهورية التي يجب التذكير بها باستمرار». ووضع كل ثقله في المعركة ضد «ديودونيه»، مطالباً بضرورة وقوف ممثلي الدولة بمواجهة كل انتهاكات مبادئ الجمهورية والعنصرية واللاسامية وبكل ما يضر بالأمن العام (...) كي لا يستطيع أحد استخدام الحفلات من أجل أغراض تحريضية لتغذية طروحات قد تكون معادية للسامية بكل وضوح. وقد دعم ممثلو الديانات الثلاث موقف الرئيس. وأيد دليل بو بكر عميد مسجد باريس «تصميم الرئيس على الكفاح ضد مظاهر الكره والعنصرية والعداء للسامية» و «كراهية الإسلام». حرية التعبير محطّ خلاف ولئن اتفق السياسيون بكل توجهاتهم على الموقف من «ديودونيه» ونبذهم «معاداته للسامية»، فقد اختلفوا حول موقف الوزير وخلفيات التعميم بالمنع وقانونيته. فحرية التعبير أساسية في الديموقراطية، ويسمح قانون عام 1881 بحرية التجمعات والتعبير في الأماكن العامة. هكذا، اتجه النقاش حول المنع أو عدمه نحو مسألة أكثر عمومية وهي حرية التعبير. الاشتراكي بيار جوكس وزير الداخلية السابق انتقد قانونية التعميم. أما مارين لوبن زعيمة «الجبهة الوطنية» اليمنية المتطرفة، فصرحت أنها وإن كانت «مصدومة» من كلمات «ديودونيه»، فإن «المناخ الهستيري» الذي تثيره هذه القضية هدفه «إخفاء المشاكل الحقيقية للفرنسيين». وترافق الهجوم في الصحف على الفنان الذي يمثل «جانباً مظلماً من فرنسا» كما وصف في إحدى الصحف، مع النقاش حول حرية التعبير والرقابة عليها. ف «احترام الأمن العام الذي يدعو إليه فالس، يتعارض بالتأكيد مع مفاهيم حرية التعبير والاجتماعات ومع الإبداع الفني». واعتبرت صحيفة «ليبراسيون» اليسارية أن «قضية ديودونيه تطرح أحد التساؤلات الأكثر قدماً التي أثارها المشترعون: هل تستطيع الكلمات الإخلال جدياً بالأمن العام؟». وكتبت: «إذا استغل أحد حماية القانون لحرية الاجتماعات، واستخدم النصوص التي تحض على الكره والتشهير باليهود، فيجب أن يطبق عليه القانون وأن يراعى التنفيذ الفوري له». ورأت صحف وطنية ومناطقية أن الأمر خطير، ودعا بعضها إلى اليقظة من هؤلاء «الذين يستغلون نقاط ضعف الديموقراطية». وانتقدت شخصيات عامة وقانونية التعميم، معتبرة أنه كان على الحكومة أن تقوم بعملها منذ وقت طويل بدلاً من هذا القرار، كما بإمكانها عند لجوء أحد الطرفين إلى القضاء الإداري أن تجمع البراهين على معاداة الفنان للسامية بالذهاب إلى حفلاته، وتقدّمها إلى القضاء. ورأى البعض أن قرار الحكومة «السير في طريق قامع للحرية يثير جدلاً ليس له داع»، فسيكون كارثياً لو تغلب «ديودونيه» أمام العدالة و «سيتحول إلى شهيد وضحية وتثار موجة عريضة من التعاطف معه مع أنه يكرر ارتكاب الجنح». وبرأيهم، كان من الأفضل إعطاء «كلماته صدى أقل بدلاً من منحه الحجج، فهو معاد للسامية قريب من اليمين المتطرف في أسوأ صوره»... أما استطلاعات الرأي فبيّنت أن لدى سبعة فرنسيين من أصل عشرة رأياً سلبياً في «ديودونيه» بسبب عباراته المعادية للسامية، إلا أن 52 في المئة منهم فقط يؤيدون قرار منع عروضه. حرية التعبير أولاً والعقوبات ثانياً أكدت التعليقات وآراء القانونيين أن التعميم يشكل من الناحيتين النظرية والعملية مشكلة، وأن منع الحفلات بدعوى الحفاظ على الأمن العام «مقيد» على نحو خاص. ومنذ بداية القرن العشرين يسمح القانون بالحفلات وينبذ الرفض المسبق، وبالتالي في حالة كهذه فإن الأفضل هو الملاحقة القضائية. وقالت آنييس تريكوار المحامية من هيئة حقوق الإنسان لصحيفة «لو فيغارو» إن المبدأ هو «المحافظة على حق التعبير ومن ثم تأتي العقوبات إذا أسأنا استخدامه». «ديودونيه» الذي كان من المقرر أن يحيي هذه الفترة حفلات في مدن فرنسية عدة أولاها مدينة نانت المركز الانتخابي لرئيس الوزراء جان - مارك إرولت، بدأ بالهجوم مدعوماً بالنجاح الذي حصده من 15 دعوى سابقة أقيمت عليه بحجة الإخلال بالأمن العام. وقال محاميه جاك فيردييه: «المحافظات خاضعة للدولة ولكن القاضي حرّ وسنلجأ إليه للمحافظة على الجولة الفنية، وفي حالة الإلغاء سنلاحق المسؤولين». بيد أن الإلغاء تمّ ونجح الوزير بلجوئه، بعد إقرار المحكمة الإدارية عدم شرعية المنع، إلى أعلى هيئة في الدولة وهي مجلس الدولة. المجلس أعطى قراره تأييد المنع في وقت قياسي جداً لم يتجاوز الثلاث ساعات، أي بوقت قليل قبل بدء الحفلة في نانت! هكذا، عاد ستة آلاف من جمهور هذا الفنان خائبين غاضبين بعد التصفير لرئيس الشرطة، وأدى بعضهم حركة «كُنل» أمام العدسات كتعبير عن تحديهم للنظام، ولكنهم لم يثيروا أي نوع من الشغب. ونشرت صحيفة «لو نوفيل أوبسرفاتور» أن العرض لم يكن هناك ولكن الغضب كان! وعنونت «لو مانيتيه» الشيوعية ساخرة من الوزير: «إنه إنجاز في الحقيقة، أن يتحول من يحقق منافعه على شتائم لذكرى موت ستة ملايين، إلى ضحية»! «عرب وبيض وسود» من هو جمهور «ديودونيه»؟ ومن هؤلاء الذين تجذبهم اسكتشاته على الشبكة، إذ يتراوح عدد مشاهداتها بين النصف مليون والمليونين؟ يجمع هذا الفنان الساخر أطيافاً متعددة من المجتمع الفرنسي، سواء كانت ملتزمة في توجهاتها السياسية أو لم تكن. معظم جمهوره من الشباب، العاملين أو العاطلين من العمل، ومنهم تجار ومديرون ومدرّسون. يعتبر محبو «ديودونيه» أنه نجح في جمع فرنسا المختلطة «سوداً وعرباً وبيضاً»، وكذلك هؤلاء الذي لا يجدون أنفسهم في «النظام» من الذين ينتقدون بشدة أوساط السلطة والمال والإعلام ويضعونها في سلة واحدة، وهو جمهور لا يشارك «ديودونيه» آراءه حول المحرقة مثلاً، ولكن بعضه يربط بين كره النظام وكره الصهيونية. جمهور يحب السخرية السوداء ذات الطابع السياسي الاجتماعي والحديث بحرية عما «يُغضب»، تعجبهم في «ديودونيه» جرأته فهو لا يعيد الخطاب السائد ويهاجم ما لا يهاجمه الآخرون تحديداً... جمهور متمسك بحرية التعبير ويظن أنه «ليس في حاجة إلى الوزير ليعرف ما عليه التفكير فيه»، كما قال أحدهم لأحد الصحافيين الحاضرين. وبعض هؤلاء وفق تحقيق لمحطة «فرانس إنفو تلفزيون»، يريد فقط التفرج على عرض ولا ينشغل بخلفياته السياسية، ف «ديودونيه» يضحكه حتى لو سخر من «السود»، كما عبر مواطن من جزر الأنتيل الفرنسية، وهذا سبب حبهم إياه ولا شيء آخر. في كتاب «غالاكسي ديودونيه» الذي نشر في عام 2011 يقول الكاتب إن «المرجع السياسي لجمهور «ديودونيه» ضعيف، وهو لا يرى الفرق بين اليمين واليسار، بينهم كثير من السود والمسلمين الذين يتقاسمون الشعور بأن ثمة مكيالين لقياس الأمور في فرنسا». أما حركة «كنل» فاعتبرها الكتاب نوعاً من «التنفيس». «لقد أسدلت الستائر، لكن العرض لم ينته»، كما عنونت إحدى الصحف الفرنسية. فهل سيتتابع المنع في استباق لما سيقوله «ديودونيه» في عروضه، وهو ما لم يحدث في هذه الديموقراطية العريقة؟ ولكن، إذا اعتبر التأييد ل «ديودونيه» الذي باتت الجالية اليهودية ومعاداة السامية تأخذان في اسكتشاته الحيز الأوسع، عارضاً مرَضياً للمجتمع الفرنسي، ألا يتوجب البحث عما وراء هذا المرض بدلاً من استخدام المسكّنات لإخفائه بحجة منع الإخلال بالأمن العام؟