مرت قبل أيام الذكرى الثالثة لانتصار أولى «ثورات الربيع العربي»، وذلك في تونس في 12 كانون الثاني (يناير) 2011، والتي بدأت حراكاً، قد يتفق المرء معه أو يختلف، ولكنه لا شك أحدث تغييرات في المنطقة العربية، وهو مرشح لإحداث المزيد في المستقبل، سواء تونسياً أو عربياً، إقليمياً أو دولياً. وما سنتناوله هنا على سبيل التحديد هو طبيعة دور كل من «الفرد» و «الجموع» في سياق «الربيع العربي»، على الأقل حتى اللحظة الراهنة، وارتباط ذلك بما حققته هذه الثورات في مسارها من نجاحات وإخفاقات. تذهب الغالبية العظمى من التحليلات إلى أن هذه «الثورات» شهدت انتقال مركزية الدور من الفرد، والمقصود هنا القائد أو المنظر أو غير ذلك، إلى «الجموع»، بمعنى الأعداد الغفيرة غير المنتظمة بالضرورة في سياق تنظيمي ينتهي الأمر في إطاره إلى الانصياع لآراء القائد الفرد أو المجموعة القيادية المحدودة العدد. وقد انتقل أغلب هؤلاء من هذه الفرضية إلى استنتاج مؤداه أن هذه الخاصية جعلت الثورات تفتقد منذ انطلاقها القيادة، الأمر الذي سهل سعي بعض القوى الفكرية والسياسية التي شاركت كمجرد طرف ضمن آخرين، إلى السعي للاستيلاء على السلطة السياسية باسم تلك الثورات، إما لأن هذا الطرف أو ذاك يمتلك التنظيم الهرمي المحكم، أو لأنه يمتلك الطرح الأيديولوجي المتماسك، أو لأنه يستمع وينصاع إلى رأي قيادة واحدة من دون غيرها. ولا شك في أن بعض مكونات هذا الطرح في التفسير سليمة ولكن بعضها الآخر قد يحتاج إلى مراجعة في ضوء قراءة أشمل لتطور الأحداث وخلفياتها وتداعياتها منذ الثورة التونسية وحتى الآن. فهذه الثورات قامت من دون قيادة واضحة أو توجيه من رمز أو منظر شخص أو مجموعة محدودة من الأفراد، لكن هذا الأمر كان له، في مقابل مثالبه من وجهة نظر منتقديه، ميزتان رئيسيتان هما: أولاً أن هذه الشعوب كانت قد وصلت إلى حالة «هلع» من فكرة «الزعامة الفردية»، لأنها مرت بها من قبل. وإن كانت هذه الزعامة أتت في مراحلها الأولى بإنجازات تاريخية ترجمت إلى واقع أحلاماً عاشت هذه الشعوب تتطلع لتحقيقها، فإن نمط الحكم الفردي سرعان ما أتى إلى السلطة لاحقاً بشخصيات لم تحقق إنجازات للشعوب بل سلبتها إنجازات تحققت في الماضي، وفي الوقت ذاته جسدت في شكل واضح مخاطر الحكم الفردي لعدم توافر مقومات الزعامة في من تولى الحكم لاحقاً. الأمر الثاني أن غياب القيادة الواضحة للثورات كان أحد أهم عوامل نجاحها، سواء اتفقنا مع وجهة هذا النجاح أو اختلفنا، نظراً الى أن غلبة طابع «الجموع» عليها حال دون نجاح أجهزة الأمن المتمرسة في هذه البلدان في توقع حجم الثورات ومداها، ومن ثم في إجهاضها قبل تحولها حركات جماهيرية احتجاجية تقدر بالملايين. كما أن هذا الطابع الجمعي هو ما حال أيضاً، بعد اندلاع الثورات، دون قدرة الحكام من احتوائها هذه الثورات أو التوصل إلى تفاهمات تشمل حلولاً وسطاً مع قادتها نظراً الى أنه من الناحية الفعلية، وعلى رغم وجود رموز بارزة وشخصيات قيادية، فإن أياً منها لم تكن لديه القدرة على أن يسيطر أو يوجه هذه «الجموع» أو حتى غالبيتها. الأمر الآخر يتصل بأن هذا الطابع الجمعي هو في حقيقة الأمر ما وفر الآلية للجماهير للخروج مطالبة بتصحيح مسار ثوراتها وبالمضي والدفع في هذا الاتجاه، وذلك عندما شعرت غالبية «الجموع» أن تلك الثورات في موجاتها الأولى لم تحقق أهدافها، أو أنها أصبحت تحت سيطرة تيار أو فصيل فكري وسياسي واحد، أو أنها ابتعدت من أهدافها الأصلية وتم توظيفها لتحقيق أهداف غير مرتبطة بالضرورة بالأهداف التي قامت من أجلها في المقام الأول. ومرة أخرى كان غياب القيادة الفردية أو قيادة المجموعة المحدودة العدد هو الضمانة الشعبية كيلا تقع الثورة تحت سيطرة تيار بعينه أو تفقد بوصلتها أو تتراجع عن تحقيق أهدافها، بل أصبح هذا الأمر محفزاً لاستمرارية الثورة وديناميكية حركتها التصحيحية من داخلها، كما جعل «الشارع» بمثابة الضامن الرئيسي كيلا تحيد الثورة عن مسارها، مع الإقرار بدور مؤسسات وطنية أخرى في لعب دور هذا الضامن وتقديم نفسها في هذا السياق. ولكن التساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو: إلى متى تستطيع هذه «الجموع» أن تحتفظ بقدرتها على التعبئة والحشد للنزول للشارع بغرض إعادة تصحيح المسار والعودة إلى الطريق الأصلي للثورات كما تصورته هذه «الجموع» بأهدافه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية؟ وأين تقع النقطة الفاصلة التي بعدها ستكون هذه «الجموع» قد حولت قوة الضغط التي تمتلكها آلية ذات طابع مؤسسي، وليس مجرد حركة عفوية أو متوقفة على دعوة فصيل أو مجموعة من الفصائل كلما استدعى الأمر ذلك؟ أتصور أن الوقت ما زال مبكراً للحديث عن الوصول إلى هذه النقطة في ضوء معطيات الواقع الراهن من جهة، وأخذاً في الاعتبار طبيعة الثورات وامتدادها الزمني ومرورها بفترات مد وجزر من جهة أخرى. * كاتب مصري