عندما وضع موتسارت الحان أوبرا «الناي السحري» في العام 1791، كان في الخامسة والثلاثين من عمره، وحين قدمت هذه الأوبرا في خريف ذلك العام نفسه، كان لا يزال أمامه شهران فقط يعيشهما قبل أن يموت ميتته التراجيدية المثيرة للأسئلة والتي جعلته يدفن في مقبرة عامة. وبعد «الناي السحري» لم يؤلف موتسارت سوى عمل موسيقي واحد، ظل دون اكتمال وإن كان ما أنجز منه اعتبر وصية فنية ذات عمق استثنائي وجمال أخاذ: «الجنّاز» الشهير. ومن هنا تعتبر أوبرا «الناي السحري» آخر عمل درامي وآخر عمل مكتمل أنجزته عبقرية ذلك الفتى الذي لا يزال العلم يتساءل حتى اليوم عن سر عبقريته وعن غوامض تلك الموهبة التي ارتبطت به منذ طفولته وجعلته «ابن موت»، وفق التعبير المصري الشائع الذي يتحدث عن حتمية الموت المبكر للأشخاص الاستثنائيين. والحال انه إذا كان «الجناز» اعتبر وصية موتسارت الروحية والموسيقية، فإن «الناي السحري» يمكن اعتبارها وصيته الفكرية والجمالية في آن معاً. ذلك ان هذا العمل، إذ حُلّل كثيراً ودُرست خلفياته، انكشف أمام الباحثين عن عمل يغوص في أفكار «الماسونيين» (البنائين الأحرار) وينهل من رموزهم ومن أفكارهم حول الصراع بين النور والظلام، أولهما يمثل الخير والثاني الشر. ويتفق الباحثون والمؤرخون عادة على أن موتسارت حين لحن هذا العمل كان يعرف تماماً ما سيؤدي اليه: كان يقصد منه أن يكون دعوة الى الفكر الماسوني، وعلى الأقل في بعده المركّز على الإنسان ومكانته في المجتمع، وما ينبغي ان يمر به من تجارب ومواقف لكي يستحق أن يكون انساناً. غير ان هناك في الوقت نفسه اتفاقاً آخر على «الناي السحري»: اتفاقاً يفيد بأن هذه الأوبرا هي واحدة من أعظم الأوبرات في تاريخ الموسيقى، لا سيما من ناحية ان موتسارت عرف فيها كيف يقدم الاستخدام الأمثل للبعد الدرامي في الألحان حيث لا يعود ثمة فارق بين شكل الموسيقى ومعناها، بين الأغنية والموقف. خصوصاً ان الموسيقى أتت هنا في حد ذاتها لتعبر في كل لحظة، ليس عن الموقف الموصوف فقط، بل كذلك عن رد الفعل السيكولوجي لدى كل شخصية على الموقف الذي يجبهها. ولقد كان من المدهش ان يُقدم موتسارت على هذا في عمل له هذا البعد الفلسفي كله، وموجّه - اضافة الى هذا - الى الجمهور الشعبي، لا الى البلاط، أو الى أماكن تغشاها الطبقة الراقية وأعيان المجتمع. في جزء غير يسير من عمله، ارتبط موتسارت بالشرق كما كان يلوح أمام الغرب في زمنه، وهكذا يمكننا أن نعثر في الكثير من أعماله على روح شرقية ان لم يكن على مواضيع شرقية - حتى هذه كانت موجودة، ويعيش الى اليوم بيننا، على سبيل المثال، «المارش التركي» و «خطف في السرايا»... الخ -. غير ان ما يمكن ان يقال عن «الناي السحري» هو ان هذا العمل يكاد يكون ملتحماً بالشرق، عبر أكثر من سبيل: فهناك أولاً، الحكاية التي استقاها كاتب النص ايمانويل شيكانيدر (1751 - 1812)، وكان ممثلاً وكاتباً درامياً، من مجموعة من الحكايات الشرقية حملها كتاب عنوانه «جنّستان» (بلاد الجن) نشره فيلاند في العام 1786، وجمع فيه الكثير من حكاية الجن والسحرة الآتية من بلاد الشرقين الأقصى والأوسط، وهناك بعد ذلك الحضور المصري الفرعوني المكثف، والفلاحون المصريون، ورمزية الأهرام، وحضور ايزيس وأوزيريس (عاشقي الزمن الفرعوني - شهيديه)... وتحديداً كما رسمتهما المخيلة «الماسونية» كجزء من تراثها وطقوسها. وهكذا يمكن التعامل مع «الناي السحري» بكونه عملاً منتمياً الى الشرق، أو بالأحرى الى الشرق الاستشراقي، كما سيكون حال «عايدة» لفردي لاحقاً، بين أعمال أخرى شكّل الاستشراق خلفية لها، في زمن كان الشرق موئل الرومانسية وملهم كبار المجددين الغربيين في الفنون والآداب. إذاً، انطلاقاً من نص كتبه شيكانيدر، وضع موتسارت هذه الأوبرا التي قدمت في مسرح شعبي يقوم في بعض ضواحي فيينا ويديره شيكانيدر نفسه، للمرة الأولى ليلة 30 أيلول (سبتمبر) 1791. وكما يمارس الناي السحري مفعوله على أحداث الأوبرا وأشخاصها، سرعان ما مارست هذه الأوبرا نفسها مفعولها على الناس، حيث ان نجاحها كان سريعاً، إذا ما مضت شهور إلا وكانت الأوبرا قدمت مئات المرات، وشاهدها الألوف. ومع نهاية العام 1800 كانت «الناي السحري» قد عرضت في أكثر من مئة مدينة، واقتبست وسرقت وقلدت. والطريف هنا ان باريس لم تعرف «الناي السحري» الحقيقية الا ابتداء من العام 1923. قبل ذلك كان ما يقدم اقتباساً بعنوان «أسرار ايزيس» حققه موريل دي شيديفيل، يركز على الجانب الفرعوني من العمل. أما بالنسبة الى موتسارت، فإن الجانب الفرعوني انما كان يمر عبر السمة الماسونية ل «الناي السحري» كما أشرنا. وهو أمر لم يعبأ المتفرجون به كثيراً حينها، ما جعل للأوبرا وجهين، وجهاً شعبياً يرتبط بأحداثها وألحانها الرائعة، ووجهاً نخبوياً يرتبط بمدلولاتها. ولكن، في النهاية ظلت «الناي السحري» عملاً شعبياً يتحلق من حول قصة حب أسطورية، تتدخل فيها القوى الخفية، الشريرة والطيبة، ويدور الصراع بين الخير والشر فيها، وتحدث انقلابات مسرحية تقلب توجهات الشخصيات رأساً على عقب، وتتفاعل قوى الماوراء مع البشر العاديين، وصولاً في النهاية الى انتصار الخير والنور: أي الى انتصار الحب. أوبرا «الناي السحري» التي تنتمي الى نوع يمزج ما بين الغناء (الفردي والجماعي) وبين الحوار المسرحي الذي يلقى من دون أي ألحان، وهو نوع شعبي تماماً كان له رواج في ذلك الحين ويطلق عليه اسم «سنغشبيل»، هذه الأوبرا تنتمي - إذاً - في الوقت نفسه الى عالم الحكاية الفلسفية، لكنها حكاية تمزج ما بين جدية الفكر «الماسوني» وصرامته في طقوسه وتفاصيله، وبين الهزل الشعبي الذي يبدو من دون حدود. وتتألف «الناي السحري» من فصلين، على غير عادة أوبرات ذلك الزمن، غير ان كلاً من الفصلين ينقسم مشاهد عدة، حيث يبدو العمل في نهاية الأمر أشبه بموازييك شخصيات ومواقف ومشاهد. في بداية الفصل الأول من «الناي السحري» يطالعنا الأمير الشاب والوسيم تامينو وقد طارده ثعبان مرعب. وإذ يغمى على الأمير، تهرع الى انقاذه من مصيره ثلاث نساء مقنّعات. وحين يعود الأمير الى رشده يجلس الى جانبه صياد طيور يدعى باباجينو يزعم امامه انه هو الذي انقذه، وإذ تسمعه النساء الثلاث يقول هذا، يعاقبنه على كذبه بإغلاق فمه بقفل، ويعطين الأمير الشاب صورة فتاة حسناء يقع من فوره صريع هواها. وعند ذلك تظهر «ملكة الليل» التي تكشف امام الأمير ان الفتاة بامينا هي ابنتها التي أسرها المتوحش ساراسترو. ويقرر الأمير ان ينقذ بامينا من الأسر. وهنا تزود النساء الثلاث تامينو بناي سحري ويخلصن باباجينو من القفل ويعطين الأخير آلة موسيقية ذات أجراس. وهكذا يصطحب تامينو رفيقه الصياد ويتوجهان معاً الى قصر ساراسترو. في الفصل الثاني، إذ يلتقي تامينو ببامينا، تقع هي الأخرى في هواه. لكن المفاجأة تكون في ان ساراسترو ليس متوحشاً شريراً، بل هو انسان طيب يريد الخير للعاشقين، كما انه يريد انقاذ الفتاة من شر أمها ملكة الليل. وإذ يقرر ساراسترو ان يخلفه العاشقان على عرشه يقول ان عليهما في سبيل ذلك ان يجتازا الكثير من التجارب والمحن. وهذه التجارب هي التي تغطي الفصل الثاني، ويرتبط معظمها بالطقوس الماسونية، أحداثاً وأرقاماً (حيث الرقم الماسوني الذهبي هو المسيطر: 3 نساء و3 محن... الخ)، وصولاً الى الجانب الفرعوني وحضور الاهرامات والريف المصري وما الى ذلك. وطبعاً لسنا في حاجة الى القول ان ذلك كله يوفر لموتسارت امكانية تنويع موسيقاه، بين الغناء الفردي والجماعي. أما الموسيقى، فتصل الى مستويات درامية لم يكن فن الأوبرا قد وصل الى ما يضاهيها من قبل... لا سيما في النهاية حين يعلن ساراسترو بكل بهاء وفخامة انتصار النور على الظلام. هذه الأوبرا التي أراد المفكر والكاتب الألماني غوته، لفرط اعجابه بها، أن يكتب لها تتمة، ختمت حياة موتسارت ومساره الأوبرالي، واعتبرت ذروة في ذلك المسار. وكما أشرنا أنجزها الموسيقي الشاب خلال الشهور الأخيرة من حياته هو المولود العام 1756 في سالزبورغ. وكان موتسارت في السادسة حين بدأ يعزف ويبرز أمام الجمهور، ما جعل والده الموسيقي يصطحبه في جولة مبكرة في أوروبا، وخلال السنوات التالية استقبل في البلاطات كافة، وبدأت تظهر أعماله المؤلفة، والتي كان يضعها في وتيرة سريعة وغريبة. وهكذا خلال ربع قرن لا أكثر، كتب الكثير من السيمفونيات والأوبرات والكونشرتو، وجدد في الموسيقى الباروكية، وفي القدّاسات والجنّازات. ومات في العام 1791 مخلفاً أعمالاً خالدة من أبرزها أوبرات «دون جوان» و «عرس فيغارو» وغير ذلك من أعمال لا تحصى ولا حاجة الى التذكير بها. [email protected]