منذ ظهر مسلحوها وحيثما ظهروا، عملت «داعش» كل ما في وسعها لكسب نفور السكان، بحيث لن تجد اليوم من يذرف عليها دمعة واحدة. وهي تتعرض لهجوم متعدد الأطراف من حكومة المالكي في الأنبار شرقاً إلى كل المجموعات المسلحة في شمال سورية غرباً. ولم يتوانَ بيان صوتي منسوب إلى «داعش» عن تهديد خصومها ب «الانسحاب من المناطق المحررة وتركها عرضة لهجوم قوات الأسد»، وكأنها تؤكد ما جاء في بيان الائتلاف الوطني المعارض الذي صدر قبل أيام واتهمها بأنها صنيعة النظام. ولم تعد أكاذيبها في تبرير أفعالها المتوحشة أو للتنصل منها تنطلي على أحد، بعدما أفرغت المناطق المحررة من الإعلاميين وعدَّت الكاميرا عدوتها الأولى. ليس الاستياء العام من وجود هذا الفرع من تنظيم «القاعدة» وليد اليوم، وقد تأخر شن الحرب على «داعش» كثيراً بسبب حسابات انتهازية لدى الفصائل المسلحة القادرة على ذلك. ما الذي حدث إذاً ليجعل الحرب على «داعش» تطغى على الحدث السوري والعراقي معاً في آن؟ ما الذي دعا إلى تأسيس «جيش المجاهدين» لتكون مهمته الأولى، وربما الوحيدة، القضاء على «داعش» وطردها من سورية؟ وكيف انخرط الجميع، بمن فيهم «جبهة النصرة» ذاتها، في هذه الحرب؟ لم يعد من قبيل الاكتشاف أن نقول إن زمام المبادرة في الثورة السورية، بمستوييها العسكري والسياسي، انتقل تماماً إلى أيدي غير السوريين من قوى اقليمية ودولية متنوعة الأهداف متضاربة المصالح. وما الحرب الراهنة على «داعش» إلا نتيجة قرار تم اتخاذه في عاصمة ما من العواصم المنخرطة في المشكلة السورية. أهي أنقرة الغارقة في فضيحة الفساد التي تكاد تطيح بحكومة «العدالة والتنمية»؟ أم الدوحة الطامحة إلى العودة للإمساك بالملف السوري بعد إقصائها منذ أشهر؟ أم باريس أم واشنطن؟ لا نملك، أمام هذه الأسئلة، سوى التخمين. مرد تركيزنا على المحور التركي– القطري هو أن الحكومة التركية المتخبطة داخلياً تبحث، منذ بعض الوقت، في سبل إعادة التوازن إلى سياستها الخارجية في ضوء التقارب الأميركي – الإيراني الذي يبدو أنه يقوم على تطلعات استراتيجية طويلة الأمد لدى الجانبين، ولا يقتصر على تفكيك البرنامج النووي الإيراني. مستفيدةً من الفتور الراهن في العلاقات الأميركية – السعودية، بسبب التقارب الأميركي– الإيراني، وجدت قطر اللحظة المناسبة للعودة إلى الانخراط في ملفات المنطقة من مصر إلى سورية. الأمر الذي ظهر بوضوح في الاجتماع الأخير للائتلاف الوطني الذي شهد صراعاً ضارياً على احتلال الأطر القيادية فيه بين جماعات محسوبة على حكومات عربية وانتهى بانسحاب خمسين شخصاً في ما يشبه أكبر انشقاق تشهده أطر المعارضة السورية منذ قيامها. لا تستقيم قراءة الحرب على «داعش» من غير أخذ هذه الخلفيات الدولية في الاعتبار. ولكن أليس التخلص من «داعش» مكسباً في حد ذاته لجميع السوريين بصرف النظر عمن اتخذ القرار بذلك؟ بلى، لو كان الأمر يتعلق بعمل جراحي يتم فيه استئصال هذا الورم الخبيث الذي ارتكب كل الفظاعات الممكنة في حق الناشطين المدنيين والثوار المسلحين والسكان. لكن الخشية هي أن يتحول الأمر إلى حرب طويلة قذرة تشكل بيئة مناسبة لمزيد من إذلال السكان وإرهابهم، وتطيل عمر النظام الساقط. فمن جهة أولى أعلنت «داعش» ردها، في تسجيل صوتي مطول لناطق باسمها، اعتبرت فيه كل خصومها كفاراً أو مرتدين باتوا أهدافاً للقتل، بما في ذلك الائتلاف المعارض وقيادة أركان «الجيش الحر». وبدأت ردها العملي من خلال السيارات المفخخة التي يقتل تفجيرها العشرات من المسلحين والمدنيين على السواء. ومن جهة خصوم «داعش» من الفصائل المسلحة والإعلام المناهض لها، نلاحظ حملة الشيطنة المألوفة التي نشهد مثلها في مصر في حق جماعة «الإخوان المسلمين». لكن أسوأ ما في الأمر قد يكون في طبيعة القوى المتصدية ل «داعش». وإذا كان «جيش المجاهدين» الغامض هو رأس الحربة في هذه الحرب، فالمستفيد الأكبر من نتائجها الأولية إنما هو «جبهة النصرة» التي عادت إلى الواجهة بعد انكفاء. لم يكن مصادفة ظهور «الحوار» مع زعيمها أبو محمد الجولاني على قناة «الجزيرة» قبيل بدء الحرب على «داعش» بأيام قليلة. ف «الجبهة» التي خبا صوتها ووهنت قوتها منذ انشقاقها عن «دولة العراق والشام» بزعامة البغدادي، تعود اليوم بقوة إلى المشهد السوري كأننا إزاء «حركة تصحيحية» في قلب «القاعدة» بعد فترة من فضيحة إعلان الدولة الإسلامية في المناطق المحررة في الشمال السوري، مع امتدادها في محافظة الأنبار العراقية. إذا كانت الولاياتالمتحدة تعلن دعمها حكومة المالكي في مواجهة «داعش» وتزودها الأسلحة اللازمة لمحاربتها، فيما «يتوق» السفير روبرت فورد إلى اللقاء مع «الجبهة الإسلامية» التي تضم منظمات سلفية جهادية ك «جيش الإسلام» وحركة «أحرار الشام»، فمن المبكر أن نتفاءل بقرب التخلص من «داعش»، إذا كانت البدائل أخوات «داعش».