على رغم كل أسباب التشاؤم المحيطة بعملية التحول الديموقراطي في مصر منذ اندلاع «ثورة 25 يناير»، يبرز سبب وحيد للأمل في وسط القاهرة. فإلى جانب حالة الفوضى والعشوائية التي تحاصر معمار المدينة العتيقة بطريقة يصعب تفاديها، توجد بؤر ثقافية ناشطة تغير إيقاع شوارع المدينة وتكشف حيوية لم تكن قائمة في هذا الفضاء. ويصعب على زائر القاهرة اليوم ألا أن يجد مجالاً لحضور فعالية ثقافية أو عرض فني في هذه النقاط التي تظل نقاطاً مضيئة، على رغم كل شيء، فهي غيرت ملامح الثقافة المصرية في وقت وجيز، الأمر الذي دعا كثيرين إلى اعتبار ما جرى في مصر لم يكن إلا انتصاراً للخيال الجديد في أشكال التعبير وفضاءات العرض البديلة التي تشير إلى لحظة مختلفة دعت كثيراً من الفنانين والكيانات الثقافية إلى اقتحام الشارع وتقديم تجارب للجمهور من دون الحاجة إلى الحصول على تصاريح أمنية. وهي نقطة فارقة بتعبير الناشط طه عبد المنعم الذي يشارك في تنظيم فاعلية «الفن ميدان» التي بدأت منذ نيسان (أبريل) 2011، أي بعد ثلاثة شهور من تنحّي الرئيس حسني مبارك، ولا تزال مستمرة، رغم محاولات رسمية لمحاصرتها مالياً. يتذكر عبد المنعم الفائز بمسابقة نظمتها مؤسسة المورد الثقافي عن تطوير السياسات الثقافية في مصر ما كان قائماً قبل ذلك، «قال لي مسؤول كبير في وزارة الثقافة بعد خروجه منها، إن الدولة كانت تمنع منعاً باتاً إقامة أي نشاطات ثقافية خارج الأماكن الحكومية المغلقة، وضرب مثلاً بالصعوبات التي أدت إلى منع احتفالية للنحات محمود مختار لأن جزءاً منها كان موكباً صغيراً يسير من دار الأوبرا إلى متحف مختار، وهي مسافة لا تتعدى المئتي متر في الشارع». تلك الواقعة تجعل عبد المنعم ينظر إلى الواقع الجديد بكثير من التفاؤل، فالغرافيتي هو أول تطبيق عملي لاستخدام الفضاءات المفتوحة كمعارض فنية، وهو ما يؤرق الدولة والجهاز الثقافي الرسمي. لذلك كانت أولى معارك الدولة التسلطية عندما بدأت تستعيد عافيتها، موجّهة إلى فن الغرافيتي حيث مسحته مرات عدة عن الجدران، لكن لأن الفنان اكتسب شرعيه وجودة في الميدان رجع الغرافيتي في اليوم نفسه ليرسم من جديد. ويؤكد طه أن الثقافة الرسمية التي تقدمها الدولة في صورة معلبة للشعب قائمة على التوجيه والإرشاد، مهدّدة بمساحات الحرية التي تخترق هذا التصور. معارك ثقافية تؤرخ الناقدة سامية محرز مؤلفة كتاب «المعارك الثقافية في مصر»، لظهور الفضاءات الثقافية البديلة في السنوات العشرين الأخيرة، حيث أظهر واقع العولمة أن القطاع الثقافي في مصر ليس بمعزل عن تدفّق رأس المال العالمي وتأثيرات الخصخصة والدمقرطة المحلية، وإلى جانب تطور حركات المجتمع المدني الذي أبرز على الساحة الثقافية دور نشر خاصة وصغيرة لكنها مؤثرة، وصناعة أفلام مستقلة وجمعيات غير حكومية ذات توجهات ثقافية، وسوقاً لمنظمي المعارض والغاليريهات الخاصة. وعلى رغم أن هذه المحاولات، وفق محرز، كانت جميعها تحت سيطرة الدولة في ما مضى، إلا أنها تتمتع برعاية الدولة من دون أن تخضع لسيطرتها الكاملة. وفي ما يخص الفنون البصرية، ظهرت فضاءات جديدة مثل «التاون هاوس» و «ساقية الصاوي» و «كريم فرنسيس» وقاعة عبد المنعم الصاوي في مدينة نصر و «مشربية»، وتطوّر هذا الفضاء مع دخول فاعلين جدد مثل «فرق الورشة المسرحية» و «استوديو عماد الدين» للفنون الأدائية و «مؤسسة المورد الثقافي» و «مركز الصورة المعاصرة» و «ملتقى الإسكندرية للفنون المعاصرة». وهذا الفضاء البديل ساهم، كما تؤكد محرز في دراسة لها، في تعزيز الصناعة الثقافية في مصر وشكّل نوعاً من التحدي أدى إلى زعزعة الدور التاريخي للدولة كراعية للصناعة الثقافية ومنتجة لها، بل سعت الدولة من حين إلى آخر إلى تهميش هؤلاء الناشطين الذين يهددون دورها التاريخي وترويعهم. ويذكر النشطاء توترات كانت قائمة بين وزارة فاروق حسني و «غاليري تاون هاوس»، وفد اتهمت الوزارة الغاليري بتبني توجهات «مشبوهة». ومن جانب آخر، تتكرر اليوم بصورة مكتومة صراعات بين مؤسسة المورد الثقافي (التي تبنت في العام 2010 مبادرة لإقرار سياسة ثقافية جديدة) والقيادات الحالية لوزارة الثقافة التي تشكّك في نيات المورد من تبني هذه المبادرة العربية التي تبعتها المورد بمبادرة أخرى لدعم الفضاءات الجديدة. واللافت أن الجمهور الذي يرتاد هذه الفضاءات في معظمه من الشباب الأكثر انفتاحاً على التجليات الثقافية للغرب بكل ما تحمله الكلمة من تبسيط وتعسف، بمعنى الاستمتاع بأشكال من التعبير الفني في مجال الموسيقى أوالسينما، وكذلك أنماط من الحياة أبعد ما تكون عن أنماط حياة شباب الطبقات الوسطى المحافظين أو متعلمي الريف، فضلاً عن تمتعه بعلاقات منفتحة إلى أبعد الحدود بين الجنسين. وهو جمهور قريب، وربما كان هو ذاته الجمهور المنخرط في أشكال الاحتجاج السياسي. وتوضح محرز أنه إلى جانب هذا التحدي، حدث تحدٍّ من نوع آخر ارتبط بفكرة التفاعل الثقافي، إذ بات السوق العالمي يلعب دوراً مهماً في تحديد ما يراه كإنتاج ثقافي معاصر وأصيل في الوقت نفسه، لا سيما في ظل موقع التبعية الخاضع لها المجال الثقافي في مصر. ومع ذلك وعلى رغم التبادل غير المتكافئ من وجهة نظر محرز، فإن ظهور هذه الفضاءات الثقافية البديلة سمح للناشطين بمزيد من الحرية والحضور وتجريب وسائط جديدة. إضافة نوعية وفي السياق ذاته، تؤكد الدكتورة هبة شريف مديرة مكتب القاهرة للمؤسسة الثقافية السويسرية «بروهلفسيا»، الإضافة التي حققتها الفضاءات البديلة للثقافة المصرية. وأشارت إلى أن «المؤسسات الثقافية البديلة منذ نشأتها في منتصف التسعينات، وفّرت منبراً للعديد من الفنانين لتقديم أعمالهم (سواء الفن البصري أو الفنون الأدائية) بعيداً من سلطة الدولة المصرية التي لم تكن تتيح هذه الفرصة إلا لعدد محدود من الفنانين، وتفتقر في معظم الأحوال إلى الشفافية في الإعلان عن الدعم الذي تقدمه، كما تفتقر غالباً إلى معايير واضحة في الاختيار قائمة على الجودة والإبداع، ما جعل العديد من الفنانين يحجمون عن المشاركة في النشاطات الحكومية، ولهذا جاءت هذه المساحات الثقافية البديلة في الوقت المناسب لتلبي حاجات موجودة». إلا أن شريف تعتقد أن اعتماد هذه المؤسسات المستقلة على الدعم الأجنبي جعلها طوال الوقت هدفاً للهجوم، سواء من الحكومة المصرية نفسها أو من بعض المثقفين المصريين الذين يرون فيها خطراً على استقلال الثقافة المصرية، إذ إن التمويل الأجنبي يفرض موضوعات أو مجالات بعينها تستحق الدعم، فتلوي بعض هذه المؤسسات المشاريع الثقافية التي تنفذها لتلائم هذه الشروط، وهو ما يأتي على حساب القيمة الفنية. ولكن من ناحية أخرى فإن وجود هذه المساحات البديلة شرط أساسي للتحول إلى الديموقراطية حيث الثقافة لا تخضع لسلطة الدولة ومؤسساتها، ولكن في الوقت الحالي تنظر الدولة المصرية إلى هذه المؤسسات البديلة على أنها خطر يقوّض سلطتها وهيمنتها على الثقافة. وإلى جانب هذه الأخطار، يكتشف المتأمل المتابع كيف أن حضور هذه الفضاءات يكاد يقتصر على القاهرةوالإسكندرية وبعض المدن الرئيسة والتي لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة. وباستثناء جمعية أحمد بهاء الدين في أسيوط في صعيد مصر أو جمعية النهضة العلمية «جزويت» في المنيا ومكتبة «بوك أند بينز» في المنصورة في الدلتا، نكاد لا نلمس حضوراً لهذه الفضاءات، ما يفسر حالة الفقر الثقافي في محافظات مصر وعدم قدرة الجمعيات الثقافية غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني على مد نشاطاتها إلى هذه المحافظات المحرومة المتروكة كلياً لمؤسسات الدولة.