في أجواء انتخابية عراقية متوترة، سيكون نيل منصب رئيس الحكومة المقبل الذي يمثل الصيد الأغلى ثمناً في قسمة غنائم الانتخابات، مرتبطاً ليس فقط بالنتائج التي يمكن أن تحققها القوى السياسية للدفع بمرشحيها إلى المنافسة، بل قبل ذلك بالقدرة التفاوضية التي تسمح بجمع أكبر قدر من المؤيدين في خريطة قوى يتوقع أن تكون واسعة ومتنوعة ويصعب جمع كل أطرافها. وكان البرلمان العراقي سمح نسبياً عبر تبني قانون الانتخابات في 4/11/2013 وفق نظام القائمة شبه المفتوحة وطريقة «سانت ليغو» في توزيع الأصوات، بتوسيع قاعدة القوى البرلمانية، لتضم كما هو متوقع مجموعة من القوى الصغيرة والمرشحين الفرديين. وتداركت القوى العراقية الرئيسية هذا الاحتمال بالنزول إلى الانتخابات بقوائم متعددة حيث ينزل «ائتلاف دولة القانون» بأربع قوائم انتخابية بحسب الخريطة الجغرافية للدوائر الانتخابية. ينقسم تيار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بدوره إلى عدة قوائم لخوض الانتخابات، وتفعل «القائمة العراقية» الأمر نفسه، فيما تتعدد طرق خوض القوى الكردية للانتخابات فتخوضها متوحدة في بغداد وتسعى إلى ذلك في كركوك والموصل أيضاً لكنها تدخل متفرقة ومتنافسة في مدن إقليم كردستان. وبصرف النظر عن التوزيعات النهائية للقوائم الانتخابية، فأن المسعى المتفق عليه هو الحصول على أكبر قدر من المقاعد في الدوائر الانتخابية ال 18 على امتداد العراق، وتلك القوى سوف تجتمع بعد الانتخابات لتنسيق مواقفها أو تشكيل تكتلات كبيرة، هدفها اختيار رئيس الوزراء العراقي المقبل. وحجر الزاوية في هذا الموضوع هو فتوى المحكمة الاتحادية العراقية منتصف عام 2010 بتعريف الكتلة التي يحق لها ترشيح رئيس الحكومة من داخلها باعتبارها الكتلة التي تشكلت عبر تحالف بعد الانتخابات، وهي ليست بالضرورة الكتلة التي حازت أعلى المقاعد في نتائج الانتخابات نفسها. وعلى رغم أن تلك الفتوى الدستورية نالت جدلاً واسعاً واعتراضات ما زالت مستمرة حتى اليوم، خصوصاً من الجبهات السياسية التي عارضت تولي رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ولايته الثانية عام 2010، فأن الفتوى نفسها ربما تقدم عام 2014 الخدمة نفسها لمعارضي المالكي والراغبين بمنع توليه ولاية ثالثة، عبر سماحها لهم بتشكيل تكتل انتخابي ما بعد الانتخابات لاختيار رئيس الحكومة. ومع صعوبة التنبؤ بالكتلة الفائزة بأكبر قدر من المقاعد، فأن خريطة توزيع القوى التي تخوض الانتخابات، تشير إلى أن فرصة المالكي الذي نال المركز الثاني في انتخابات عام 2010 ب 89 مقعداً بعد «القائمة العراقية» التي حصلت على 91 مقعداً، ستكون متاحة هذه المرة بنيل المركز الأول بمعدل مقاعد قد لا يتجاوز 60 مقعداً بأفضل الأحوال. وسبب إجماع التوقعات على صعوبة نجاح أي تكتل انتخابي بجمع أكثر من 60 مقعداً من بين 328 مقعداً انتخابياً، في نتائج انتخابات 2014 يعود أولاً إلى الطريقة التي ستخوض بها القوى الانتخابات عبر أكثر من قائمة على أمل جمع نتائجها ما بعد ظهور النتائج، وثانياً إلى سماح نظام «سانت ليغو» المعدل بإعادة احتساب الأصوات على طريقة «الخاسر الأقوى» ما يمنح فرصاً إضافية لقوى صغيرة ومرشحين فرديين باحتلال نسبة قد تصل إلى 20 في المئة من مقاعد البرلمان. مرحلة ما بعد الانتخابات ستكون حاسمة في تحديد أوزان القوى وخريطة توزيع المناصب الرئيسية، ربما أكثر من النتائج المجردة للانتخابات، وسيمر الأمر بخمس مراحل على الأقل: المرحلة الأولى: تجمع كل كتلة سياسية، مقاعدها التي وزعتها على قوائم مختلفة. المرحلة الثانية: تسعى كل كتلة إلى استمالة العدد الأكبر من القوى الصغيرة والمرشحين الفرديين لتوسيع حظوظها التفاوضية. المرحلة الثالثة: تجتمع القوى الشيعية الرئيسية التي نتجت على الانتخابات (المتوقع أن تكون تيارات دولة القانون والمواطن والأحرار) لاختيار رئيس وزراء ينال الإجماع من داخل القوى الشيعية وتفتح حوارات مع القوى الأخرى (الكردية والسنية) للغرض نفسه. المرحلة الرابعة: في حال فشلت القوى الشيعية في الاتفاق في ما بينها على مرشح واحد يحظى بقبول السنة والأكراد، ستتجاوز فرضية تشكيل «تحالف شيعي موحد» إلى إعلان تحالف يضم أكثر من طيف سياسي لتشكيل التكتل الانتخابي الأكبر الذي يحق ليس ترشيح رئيس الحكومة فقط وإنما ترشيح رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية اللذين يتطلبان ثلثي مقاعد البرلمان، ما يسمح بدفع قوى شيعية إلى المعارضة. المرحلة الخامسة: تقوم الكتلة الجديدة بتسويات كردية سنية حول منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ما يشمل حسم عائدية المنصبين بالتوافق. المالكي ومنافساه الشيعة على منصب رئيس الحكومة، يضعون هذا السيناريو في اعتباراتهم، ويتسابقون في إثبات فرضية «المفاوض الأفضل» التي تعتمد على إقناع «الآخرين». «الآخرون» في اللعبة السياسية العراقية لن يكونوا فقط السنة والأكراد، والقوى الصغيرة الأخرى التي ستكشف الانتخابات عن مساحتها، بل أيضاً قوى إقليمية ودولية لها تأثير ونفوذ داخل الخلطة العراقية، مثل إيران والولايات المتحدة وتركيا ومنظومة الدول الخليجية والعربية، باختلاف مستوى تأثير تلك الدول. من الصعب افتراض ولادة يسيرة وطبيعية للحكومة العراقية، ومن السهل افتراض أن سناريو مفاوضات عام 2010 الذي استمر أكثر من 6 شهور سيتكرر عام 2014. لكن معطيات أخرى، أبرزها وضوح أهداف القوى السياسية نفسها هذه المرة سيكون له دور في تقليص تلك الفترة. فصعود أياد علاوي في انتخابات 2010 ومنافسته على منصب رئيس الحكومة مدعوماً من السنة، شكل عامل ضغط حينها على القوى الشيعية، وأجبرها على القبول بتسويات، وتقديم تنازلات تمنع علاوي من نيل المنصب، لكن السنة يخوضون الانتخابات بمعزل عن علاوي، ومنصب رئيس الحكومة يبدو اليوم أكثر من أي وقت سابق محسوم لمنظومة القوى الإسلامية الشيعية الرئيسية، ما يجعلها أكثر تحرراً في المنافسة لنيل المنصب. كما أن هناك نوعاً من التسوية المتوقعة حول منصب رئيس الجمهورية بين السنة والأكراد، حيث كانت لمطالبة القائمة العراقية بالمنصب عام 2010 أثرها في الضغط على الأكراد للدفع بالرئيس جلال طالباني لولاية ثالثة، وبانتهاء الفترة الدستورية لطالباني يبدو الاتفاق الكردي على مرشح بديل يرتبط بشخص رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني المدعوم بدوره من تيارات سنية واسعة لنيل المنصب، فيما أن هناك آراء كردية تتحدث عن عدم التمسك بمنصب رئيس الجمهورية ما بعد طالباني والذهاب إلى منصب رئيس البرلمان، والأمر مشابه في ما يتعلق بالعرب السنة. في مختلف الأحوال فأن رئيس الوزراء العراقي المقبل وهو الرجل الأقوى في منظومة معادلات حكم العراق، سيكون «المفاوض الأول» القادر على إقناع غالبية القوى الداخلية والخارجية بدعمه، ولن يكون بالضرورة «الفائز الأول».