غداة انطلاق الدورة الأولى لانتخاب الأمين العام الجديد لمنظمة اليونيسكو في باريس، نشرت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية في صفحتها الأولى صورة كبيرة لوزير الثقافة المصري فاروق حسني، المرشح بقوة لهذا المنصب، وكتبت فوقها «الرجل الذي يريد إحراق الكتب». هذه البادرة النافرة التي لم يعهدها قرّاء هذه الصحيفة الليبرالية كانت خير دليل على شراسة الحملة التي تُشن في أوروبا ضد فاروق حسني والتي يقف وراءها علانية، مثقفون يهود وجهات صهيونية معروفة أو مجهولة. جعلت صحيفة «ليبراسيون» المحترمة من صفحتها الأولى «ملصقاً» يشبه الملصقات الحزبية، مستنكرة مسبقاً، وصول فاروق حسني الى منصب الأمانة العامة لليونيسكو، وكائلة له جهاراً، تهمة اللاسامية - يا لهذه التهمة - التي تعني هنا في ما تعنى حرق الكتب الاسرائيلية. هذه الطريقة في التشهير لا تمارس عادة إلا ضد السفاحين أو مجرمي الحروب وحارقي المكتبات... ومنهم النازيون والفاشيست والفرنكويون الذين لطخوا بالدم البريء تاريخ أوروبا العريقة. لا يمكن الفصل بين هذا «الملصق» الذي خرجت به الصحيفة غداة الدورة الانتخابية الأولى والحملة الشعواء التي قام بها كتّاب يهود - يا لهذه الصفة - معروفون في فرنسا وألمانيا والنمسا وسواها، وفي مقدمهم برنار هنري ليفي «النجم» اليهودي الساطع وايلي فيزيل الفائز بجائزة نوبل للسلام - يا لهذا السلام. إنها حملة منظمة ومدروسة بدقة، غايتها عرقلة وصول مثقف عربي الى المنصب الأرفع في اليونيسكو، سواء ان كان هذا المثقف فاروق حسني أم سواه، أو إن كان مصرياً أو لبنانياً أو سورياً أو سعودياً... الحملة ليست موجهة ضد فاروق حسني شخصياً بل ضد هويته العربية وضد ما يحمل من أفكار أو مبادئ لا تقرّ بها اسرائيل ولا أبناؤها في العالم. كل الذين كتبوا ضد فاروق حسني وهجوه وألقوا عليه تهمة اللاسامية وحرق الكتب يعلمون جيداً أن هذا الوزير الفنان ليس من هواة خوض المعارك الهوائية ولا من هواة معاداة السامية وحرق الكتب الاسرائيلية. يعلم هؤلاء جيداً أن هذا الوزير هو من دعاة السلام الذي ارتأته الدولة التي ينتمي اليها وأن الجملة التي تفوّه بها في البرلمان المصري لم تكن إلا من قبيل «المزايدة» على الأصوليين المصريين الذين ألقوا عليه تبعة الكتب الاسرائيلية المنتشرة في القاهرة وهذه تهمة ملفقة حتماً. فاروق حسني لا يجرؤ على حرق كتاب أياً كان هذا الكتاب. هذا الفنان ليس من طينة السياسيين الحزبيين والايديولوجيين المغلقين والقصيري النظر. وزير هو فنان قبل أن يكون وزيراً وقبل أن ينخرط في العمل السياسي. لعل المثقفين المصريين الذين احتجوا على «سياسة» فاروق حسني قد يكونون على حق، وكذلك الذين استنكروا بقاءه في الوزارة طوال هذه الأعوام وانسياقه في لعبة النظام الرسمي. هذه مسألة تحتمل النقاش، فالوزير الذي أُخذ عليه ما أُخذ من مساوئ، يملك أيضاً خصالاً يُحمد عليها. لكن الحملة الصهيونية التي قامت ضده منذ أن رشح اسمه لمنصب اليونيسكو كانت كافية وحدها لارجاء النقاش الداخلي بين الوزير وخصومه وتأجيله الى ما بعد معركة اليونيسكو. لكن ما يدعو الى العجب أن تقام حملة مصرية «داخلية» ضد فاروق حسني في اللحظة التي يخوض فيها أعنف معركة داخل المنظمة الدولية، مع أعداء وليس مع خصوم، مع دول وأحزاب تكنّ له الكراهية ليس لأنه مصري بل لأنه عربي. بدا واضحاً تمام الوضوح أن المعركة التي شُنّت ضد فاروق حسني لم تكن إلا معركة «تهويد» القدس. ليس في مقدور اسرائيل أن تتصور شخصاً عربياً يحتل كرسي اليونيسكو، هذه المنظمة المعنية بذاكرة الشعوب وثقافاتها وهوياتها وآثارها التاريخية. لا تريد اسرائيل أن يصل الى هذا المنصب شخص يقول بالصوت العالي: لا لتهويد القدس. فهذا «التهويد» الذي طالما حلمت اسرائيل به وسعت الى تحقيقه بلغ في الآونة الأخيرة مرحلة من مراحل الذروة، لا سيما بعد زحف المستوطنات الى تلال القدس، ناهيك بما أنجزت الدولة العبرية «مجازر» ضد الذاكرة الفلسطينية، تاريخياً وجغرافياً. قد يخطئ مَن يظن أن معركة اليونيسكو هي معركة بين فاروق حسني والمثقفين اليهود، إنها معركة اسرائيلية ضد شخص عربي يمكنه أن يفضح مشروع تهويد القدس، ويعارض، انطلاقاً من موقعه العالمي، الحملة الاسرائيلية الهادفة الى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم كما من ذاكرتهم وتاريخهم. مبروك فاروق حسني، لقد ربحت المعركة معنوياً قبل أن تربحها على الأرض.