تمكّن الروائي الجزائري أمين الزاوي، وببراعة، أن يجعل من روايته الصادرة حديثاً «نزهة الخاطر» عن (منشورات ضفاف- الاختلاف) بياناً شبه رمزي، أنجزته مخيلة كاتب امتهن القدرة على تصوير الواقع العربي والجزائري في شكل خاص. يحيلنا الزاوي إلى عالم روائي شيّده بأسلوب يتقاطع مع عالم الواقع، إذ نشمّ فيه روائح الموت والدمار والعلل النفسية العصابية... فمن عائلة صغيرة تختزل صورة وطن، ينطلق البطل/ الراوي متعثراً بالموت الذي يتلبسه منذ أن حمل اسم ابن عمه الميت الذي توقفت حياته عليه «إنني أعيش منذ أول يوم في المدرسة في جلد ميت، فأنا موجود في الحياة بسبب ميت» (ص161). يحاول الراوي إيجاد كيان لنفسه بعيداً من حوش العائلة التي تحوي عالماً من المتناقضات، لكنّها متناقضات عفوية لم تدخلها يد التصنع والتغيير، فإذا بأفرادها يحملون دلالات وأبعاداً، فمن جدّ مؤمن قضى بسبب خطأً ارتكبه في كتابة آية قرآنية، الى أم تتأرجح بين الإيمان وعدمه، فتستحيل صلاتها ورقصاتها عاملاً للتوحد نظراً الى الاهتمام بكلا الطقسين «حين ترقص أمي لا يمكن التمييز بين حركات الصلاة لديها وحركات الرقص، كل شيء فيها يكون غائباً سابحاً في عالم آخر...التوحد» (ص192)، الى أخت تمثّل جيلاً عرقلت طريقَ مستقبله الإعاقاتُ المتعددة المشارب، اضافة الى عمّ يعيش على هواه يحمل هوية من السلبية والبساطة وعدم الطموح، وعمّة تحاول تحقيق رغباتها عبر التفلّت من بعض التابوات التي تُكبّل حركتها وحركات الكثيرين غيرها، إلى أن تنتحر هرباً من أيّ عائق قد يحول بينها وبين ما تقوم به. يسعى البطل أنزار وأخوه شبه التوأم مازار إلى تخطّي واقعهما، مكانياً وزمانياً، فينتقل الأول الى ثانوية في منطقة أخرى، تصقله الحياة فيها بتجارب جديدة، في حين ينتقل الثاني الى فرنسا ليلحق به شقيقه في ما بعد بغية تحصيل شهادة الدكتوراه من جهة، وهرباً من الخدمة العسكرية التي لم تكن الا على حساب أبناء الفلاحين الفقراء من جهة أخرى «جاء هذا البلد هارباً مثلي من الخدمة الوطنية التي يؤديها أبناء الفلاحين ويعفى منها أولاد المسؤولين» (ص223). ورغم تعدد محاولاتهما في سبيل تحقيق الذات، تبقى الطفولة وأحضان العائلة مرافقة الأخوين معاً، بل تبقى ذكرياتهما متجذرة في قلبيهما لما فيها من بساطة وأمان وهناء، وهذا ما يتضح في تكرار جملة هي شبه لازمة في النصّ «أحب مربى المشمش»، والتي تحمل دلالات تعود الى تلك الحياة التي سوف تزيد الأمور تعقيداً. وإنّ أكثر ما يزيد من هذا التعلق بها هو ما يراه أنزار اثناء اقامته في الثانوية من خلل في العلاقات على مختلف الصعد حتى تصل به الأمور الى الاقتناع بأنه يعيش «وحيداً في عالم مختلّ» (ص 118). هذا الشعور بالنفي الداخلي يدفع البطل إلى إقامة علاقة جنسية غير سوية مع عاملة النظافة في المنزل، وهي امرأة في سن والدته، وفي محاولة منه للتخلّص من هذا الواقع، يلجأ من ثمّ الى القراءة والمطالعة ليكتشف نتن الحياة الآسنة، مقيماً مقارنة رمزية بين المصلّى في قريته حيث السماح بتلقي الكتب والمطالعات على اختلاف انواعها، وُمصلى المدرسة الذي تسيطر عليه جماعات اسلامية متطرفة تفرض افكارها من دون الاعتراف بآراء الآخرين. من ذاك المكان، يترك الراوي واقعاً لا يُطاق، قاصداً بلاداً ما وراء البحار، ليحطّ رحاله في فرنسا راغباً في الحصول على شهادة وفي لقاء أخيه الذي كان يحبه حتى الهوس. وهناك يكتشف الأخ الوافد حديثاً إلى مدينة الأنوار عالماً حضارياً تتشعب فيه الأفكار من دون تناحر، وتختلف الآراء من دون ان يُقصى صاحبها او يشرّع ضده العنف «لغات كثيرة تتقاطع بين القائمين فيها دون ان تتصارع، وحين تتصارع لا تتحارب ولا تقتل واحدة الأخرى، وجوه تتعايش ... العيون تتفاهم في المعنى واللامعنى...عالم مختلط ومتجانس، منظم وفوضوي» (ص133). في هذا العالم يقرأ عن بلاده أكثر مما قرأ عنها فيها، ويتعرف الى أعلام تركوا بصماتهم على صفحات الإبداع والفلسفة لم يكن يسمع بهم بين اهله وأهلهم. وبرغم هذا السلام وهذه الطمأنينة اللذين توفرهما الأرض الجديدة بالنسبة إلى الراوي، إلا أنه لم يستطع ان يجتثّ صورة الماضي والعائلة والأثر الطفولي من كيانه، ليجد نفسه أمام موت جديد. إنّه يعيش بين جثث هامدة تدفعه الى الإدمان على الخمر والحشيش والعلاقة الجنسية التي لم تختلف كثيراً عن سابقتها طالما ان «مربى المشمش» قاسمهما المشترك. وبدلاً من تحقيق الأحلام، ينتهي الأمر به في مصحة نفسية راعياً للدواب، في حين نرى اخاه في حظيرة خنازير. يعرض نص أمين الزاوي الخلل الذي تُعاني منه مجتمعاتنا عبر حبكة تعمّد الكاتب تعقيدها انسجاماً مع تعقيد الموضوع، وأكثر ما ظهر ذلك في عنصر الزمن الذي شهد تشظياً ساهم في تشظي الرؤية وتنوعها، ما أسقط النص في منزلقات المفارقات الزمنية وبخاصة الاسترجاعات، وبدا اللغط في المؤشرات الزمنية في أكثر من مكان، إذ تشير البدايات اننا امام زمن سردي يدور في السبعينات نظراً الى الذكرى العشرين لاحتفالات يوم الفاتح من نوفمبر، وبلمحة نصبح في حقبة الستينات حيث الحرب العربية الإسرائلية الثانية وهزيمة العرب، ومن ثمّ يعلن الراوي انه غادر بلاده بعد هذه المدة بعشر سنوات... ففي هذا الاختلاط سقوط في كمائن استخدام هذه التقنية الحساسة في مثل هذا النوع من السرد الروائي. لكنّ الكاتب عرف كيف يوظف تقنية التواتر الزمني المعروف بالتواتر التكراري، اذ كان غالباً ما يعيد عرض الأحداث برغم حصولها مرة واحدة، متعمداً تذكير المتلقي بثوابت النص وإشاراته الأساسية... وقد اسند الكاتب مهمة السرد والحكي للشخصية الرئيسة في النصّ في وقت أفسح في المجال أمام بعض الأصوات السردية الأخرى لتأدية مهمة السرد، وهذا ما حصل في نهاية الرواية حين استلم شقيق البطل الراوي زمام الروي أو السرد. وعمد أمين الزاوي إلى استغلال التقاطبات المكانية بغية الإشارة الى اشكالية الأنا والآخر، عبر فضاءات داخلية (الوطن/ الذات)، وأخرى خارجية (الخارج/ الآخر). «نزهة الخاطر» رواية تضعنا أمام جرد تاريخي واجتماعي لمراحل زمانية حساسة من تاريخ الوطن العربي والجزائري، عبر الإضاءة على مراحل تغلي بالأحداث التي خلّفها الاحتلال مرّة وأبناء الشعب الواحد مرّة أخرى. وعمل الكاتب عن طريق جلد الذات إلى الحثّ على النهضة وجمع شمل ما ضاع، معرياً حقيقة الظاهرة التكفيرية من جهة، وكاشفاً تصرفات الجهات الحكومية من جهة ثانية، تلك التصرفات التي تسبب موت المواطن وعجزه دالاً على ذلك من خلال مرض السرطان «السلطة والتبغ يلتقيان في شيء أساسي هو التسبب في مرض السرطان للمواطن البسيط» (ص183).