ما زالت الثورة السورية تثير الأسئلة وتطرح القضايا وتولّد التناقضات والانشقاقات وتكشف المداخلات الخارجية التي غدت بمثابة لاعب رئيس، في أوضاع السوريين. هكذا حظيت باهتمام الكتاب والباحثين بتغطية أسبابها ومشكلاتها وتحدياتها. لكن المشكلة ظلت تكمن في نقص «الدراسات الاجتماعية للتركيبة الأهلية السورية»، وهي ملاحظة مهمة أبداها الزميل حسام عيتاني في مادته «داعش والعشائر في أصل الظاهرة». ومع أن المادة المذكورة تحدثت عن «داعش»، وعلاقتها بالبنية القبلية في الشمال السوري، إلا أنها طرحت، أيضاً، مشكلة «النقص في المعطيات الاجتماعية والسكانية للواقع السوري، في الأعوام العشرين الماضية»، والتي قد تفسّر «أسباب الاستعصاء... وصعود الانتماءات والهويات الجزئية». ولما كنت في مادتي السابقة (محاولة في تفسير صعود «النصرة» و»داعش») قدّمت بعضاً من الإجابة عن السؤال المتعلق بهذه الظاهرة، فهذا الحديث سيركّز على الحاضنة الشعبية، أو ثنائية الريفي والمدني، في الثورة. معلوم أن الاختلاف حول الثورة شمل تحديد طابعها الاجتماعي، فكما برزت وجهات نظر تعتبرها مجرد مؤامرة خارجية، أو صراع طوائف، ثمة وجهة نظر رأت فيها مجرد تمرد أرياف ضد مدن، وريفيين ضد مدينيين، لا ثورة سياسية ضد نظام استبدادي، وهو توصيف ينطوي على تسرّع وتبسيط، وعلى شبهات سياسية، ضمنها التشكيك بمشروعية تمثيل الثورة مجمل السوريين، بحصرها في الأرياف، والحطّ من مكانتها وقيمتها، بإنكار تعبيرها عن أزمة وطنية عامة. لا شكّ في أن دراسة المجتمع السوري تحتاج إلى بحوث علمية موسّعة، مع ذلك يجدر التنويه هنا ببضع حقائق، ضمنها أن غالبية السوريين تتركز في المدن، وأن نسبة العاملين في الزراعة تبلغ حوالى 20 في المئة فقط (وفق التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2011). وحتى هذه النسبة قد تكون أقل، لأن جزءاً من هؤلاء لا يتفرّغون للأعمال الزراعية إلا في المواسم، كونهم يشتغلون في المدن، وهذه ظاهرة معروفة في سورية، خصوصاً أننا نتحدث عن بلد مساحته صغيرة، ويعجّ بالمدن والأرياف المتمديِنة، إذا تجاوزنا المنطقة الشرقية وهي منطقة صحراوية غالباً. ويجدر لفت الانتباه تحديداً إلى أن المجتمع السوري تعرّض لتغيّرات نوعية كبيرة، أملتها طبيعة السلطة الحاكمة وسياساتها، أي أنها لم تحصل بطريقة عفوية وطبيعية وتدريجية. فخلال أكثر من أربعة عقود اشتغل النظام على تغيير سورية، وهو لم يفعل ذلك فقط بتغيير التركيبة الاجتماعية للجيش، والمفاصل الأساسية لأجهزة الدولة، وإنما، أيضاً، بتغيير الطابع الطبقي للمجتمع، عبر سياسات التأميم، ومصادرة الأراضي، وتوزيع النفوذ وشراء الولاءات؛ بحيث باتت المكانة الطبقية مشروطة بالقرب من النظام. هكذا لم تعد البرجوازية، ولا الطبقة الوسطى، هي ذاتها التي كانت في الأربعينات والخمسينات والستينات. وهذا ينطبق على ملاك الأراضي، في وضع بات فيه معظمها ذو القيمة العقارية العالية، لا سيما في جوار المدن، في أيدي رجالات النظام أو أتباعه. وفوق ذلك، قام النظام بإحداث تغيير وإزاحة ديموغرافيين في المدن الرئيسة، لا سيما دمشق وجوارها، لزوم تضخّم وتغوّل الأجهزة الأمنية (الجيش وأجهزة المخابرات)، وفقاً لسياساته السلطوية ذات المنحى الطائفي. ونشأت عن ذلك مدن عشوائية مغلقة، و»مسوّرة»، ذات طابع خاص، على أطراف دمشق وفي قلبها، في السومرية وحي نسرين وضاحية الأسد، وفي مرتفعات المزة ودمّر وقاسيون وبرزة وغيرها. في مقابل ذلك اضطرّت قطاعات مدينية واسعة للنزوح إلى الضواحي، لأسباب متعددة، منها ارتفاع ثمن العقارات داخل المدينة، بعد أن باتت سكناً لأصحاب السلطة، أو للنأي بأنفسهم عن مقار الأجهزة الأمنية التي عشعشت في تلك الأحياء. إذاً لا يمكن احتساب سكان الضواحي أو أطراف المدن على الريف، لأنهم نازحون من أحياء المدينة. فضلاً عن ذلك، فمعظم الريف السوري تمدّن، بواقع هيمنة العلاقات الرأسمالية فيه، وبحكم قربه من المدن، وتفاعله مع الحياة المدينية. هكذا، إذا كانت مقولة تريّف المدن السورية صحيحة، فالحديث عن تمدّن الريف يغدو صحيحاً، بالمقدار ذاته، ففي الحالتين أزمة في التمدين والحداثة في سورية، في ظلّ النظام السياسي والاقتصادي والثقافي المتأسّس على الاستبداد. لذلك لا يمكن اعتبار الزبداني ودوما (تبعدان نحو 50 كلم عن دمشق)، ومدن الرستن والمعرة وإدلب وبانياس وتلبيسة، وكلها من المناطق الساخنة، مجرد أرياف، إذ إن معظم الأنشطة الاقتصادية فيها يقوم على السياحة والتجارة والخدمات والبناء. أيضاً، لا يمكن اعتبار مدينة درعا التي أشعلت الثورة، مجرد بلدة ريفية، ولا التظاهرات والاعتصامات العارمة والتي جذبت مئات الألوف في مدينتي حماه وحمص في الأشهر الأولى، حراكات ريفية. أما في دمشق، فيجدر التذكير بالتظاهرات التي كانت تعم أحياء الميدان وبرزة والمزة وداريا وكفر سوسة والقابون وجوبر ودوما والزبداني، وفي الأحياء العشوائية في الحجر الأسود والتقدم والتضامن. هذا لا يقلل من أهمية مشاركة الأرياف في الثورة لكنه يؤكّد طابعها العمومي، مع تأكيد وجود فئات أو جماعات لم تشارك فيها، أو تخوفت منها. ومع الاعتراف بمسؤولية الثورة عن هذا وذاك، بسبب عفويتها ومشكلاتها وعدم توضيحها لذاتها، فإن هذين، أي عدم المشاركة والتخوّف، ينبعان من السياسات التي انتهجها النظام طوال العقود السابقة، لا سيما لجهة تطييفه المجتمع، ووضعه جماعاته في مواجهة بعضها، مع تحريمه النشاط السياسي، وإشاعته الخوف. وبديهي أن كل ذلك تفاقم، بعد الثورة، مع خشية بعض الجماعات من ردّ فعل النظام، القائم على القتل والتدمير. هكذا اشتغل النظام هنا، أيضاً، بدأب على إزاحة الثورة ودفعها «من المدينة إلى الأرياف... ومن المجتمع المدني إلى المجتمع الأهلي»، على ما لاحظ يوسف فخر الدين في مادته «الجيش الحر» بين الريفية والتمديُن («الحياة»، 7/1/2013)، والتي تحدث فيها عن إشكاليات تغليب الطابع الريفي للثورة على طابعها المدني. والقصد أن هذه ثورة العموم، رغم كل مشكلاتها، كونها ثورة ضد الاستبداد. أما المشاركة المتفاوتة لهذه القرية أو تلك، وهذه المدينة أو تلك، فأسبابها تنبع من مشكلات أخرى عديدة ومتباينة، ضمنها سعي النظام إلى عزل الثورة وإضعافها وإبعادها عن مراكز قوته في المدن.