السؤال الذي طُرح بقوة وإلحاح فور اعلان التوصل الى اتفاق بين الدول الكبرى وإيران: هل يمكن أن ينعكس على سورية، وكيف وبماذا؟ طالما أن هذا الاتفاق «التاريخي» يتزامن مع الإعداد المركّز لمؤتمر «جنيف 2». السؤال الآخر: هل كانت سورية في أذهان المفاوضين، خصوصاً أن الايرانيين سبق أن أثاروا المسألة معربين عن استعداد لتنازلات في الملف النووي اذا حصلوا على تنازلات غربية في الملف السوري؟ يستتبع ذلك التساؤل عما اذا كان جنيفالايراني حجز لطهران الآن مقعداً في جنيف السوري، على رغم مشاركتها المباشرة في القتال الى جانب النظام. لكن تساؤلاً استنتاجياً يطرأ: وهل يتناسب هذا الدور العسكري مع اعادة تأهيل ايران للعودة الى الساحة الدولية؟ بل هل بإيران هذه يراد إحداث تغيير استراتيجي في المنطقة وهي لا تزال تتبنّى سياسة «تصدير الثورة» وتأجيج النعرات والصراعات المذهبية والتدخل السافر في شؤون جيرانها العرب وغير العرب؟ في أي حال، لم يعد في السياسة الدولية منطقٌ يقاس عليه أو بوصلة يُسترشد بها. فبين تغريدتَي «بوتين يرى العالم بمنظار المافيا الروسية» و «مع اوباما مش ح تقدر تغمّض عينيك»، هناك عربدات نتانياهو وليبرمان وسواهما من موتوري الحكومة الاسرائيلية. وهؤلاء جميعاً، بالاضافة الى خامنئي وأعوانه، لاعبون يفضلون المقامرة والمساومة بالعرب وعليهم. المؤلم أن شعب سورية وطموحه الطبيعي والمشروع للتغيير وقعا في قبضة هذه الزمرة التي تتحرّك حالياً وفقاً لكلمة سر معلنة: «الارهاب»، لكنها لا تريد أن ترى مَن استدعاه الى سورية. والمفارقة العجيبة أنها قد تُخضع مجمل الأزمة لمَن يمكن الاعتماد عليه في محاربة هذا الارهاب، أي أن مَن جاء به أولَى بإخراجه على أن يُكافأ في صفقة الحل. فهذه هي قواعد النظام الدولي الراهن، كما تقولبها روسيا وكما تتكيّف اميركا معها. والدليل الى ذلك ما حصل مع ايران التي ذهب الغرب في شيطنتها الى حدود غير مسبوقة، موحياً بأن مشكلته معها تكمن أولاً وأخيراً في طبيعة نظامها، وفي عقليته وتشدّده وشحنه الأيديولوجي ضد اسرائيل، وإلا لما كان عارض حصولها على القنبلة النووية. من هنا، أن المكسب الأول والأهمّ الذي حصلت عليه ايران هو أن الغرب تعالج وشُفي من «مشكلته» تلك، وأصبح معترفاً بالنظام قبل أن يعترف له بالحق في تخصيب اليورانيوم ولدولته بأن تكتسب صفة «النووية». وفي الأيام والساعات الأخيرة التي سبقت اتفاق جنيف، والمعانقات التي تلته، بدت الدول الكبرى وقد اغتسلت وغسلت نظام طهران من 33 عاماً من الجرائم والانتهاكات والمخالفات، وتأهبت لمعاملته بمقبوليةٍ تضاهي القبول والتغاضي اللذين يحتكر النظام الاسرائيلي التمتّع بهما. وكما أُتيح لإسرائيل أن تحتل أرضاً وشعباً بالقوة والإجرام وأن تواصل سرقة المزيد من الأرض انتقاماً من الاتفاق النووي، لا يُستبعد أن تُكافأ ايران بدور اقليمي بدأته بالرهائن الاميركيين واستثمرت فيه توتيراً لمنطقتي الخليج والشرق الأوسط، وعبثاً بمجتمعات العرب وقضاياهم، ورعايةً للارهاب واستضافةً لفلول تنظيم «القاعدة»، وسيطرة على مفاصل الدولة الهشّة في العراق، وإفساداً لصيغة التعايش في لبنان، وإيقاظاً لأفاعي الصراع السنّي - الشيعي من أجل نظام سوري آفل، وتجميداً للحوار والتوافق في البحرين، واختراقاً لليمن بالارهاب والسلاح استدراجاً لتفكيك دولته، وتحريضاً للبيئات الشيعية هنا وهناك... ثم إنها، مع سعيها الى هذا «النفوذ»، حكمت وتحكم شعبها بالقمع والاستبداد وعرّضت اقتصاده ومعيشته لعقوبات قاسية لقاء سلاح نووي لم يبدُ أنه في متناولها، وإلا لما كانت رضخت وتنازلت فقط من أجل أن يُعترَف لها بالتخصيب وأن تُخفّف العقوبات. بالمقارنة والقياس الى الحال الايرانية، كيف لنظام بشار الاسد ألا يتوقع مكافأته على ما ارتكبه هو الآخر ضد شعب سورية الذي لم يعد شعبه وضد شعوب لبنان وفلسطين والعراق، طالما أن «نظام بوتين - اوباما الدولي» يتمثّل بعقلية الارهابيين في مكافحة الارهاب، ويستعيد «فجور القوة» وبدائية قيمها في ادارة شؤون العالم، أو بالأحرى شؤون العرب حصرياً. فهذا النظام السوري كان شريكاً وحليفاً لنظيره الايراني في مختلف المراحل، من احتجاز الرهائن الأجانب والحرب ضد العراق، الى استخدام تنظيم «القاعدة» وتخصيبه لتفريخ تنظيمات بعشرات المسمّيات، الى تخريب النظام الانتقالي في العراق وإشعال حرب أهلية فيه، الى تقسيم الشعب الفلسطيني بين ضفةٍ وقطاعٍ، الى الاغتيالات السياسية في لبنان وحروب «حزب الله» بالوكالة عن النظامين اللذين يرعيانه، الى كذبة «نهج الممانعة» لبثّ الانقسام بين العرب، وأخيراً الى حرب هي الأكثر قذارة وبشاعة في التاريخ الحديث وتُخاض على أرض سورية وضد شعبها ولم يظهر حتى الآن أن طرفاً غير اسرائيل استطاع أن يحقق فيها مصلحة خالصةً نظيفةً وبأقل التكاليف... كل ذلك يجعل من نظام الاسد مؤهلاً لأن يكون أيضاً شريكاً لإيران (ولإسرائيل... ولروسيا وأميركا) في حسبة المصالح، فهو قدّم أعظم الخدمات بإضعاف العالم العربي وإلغائه استراتيجياً لمصلحة النفوذين الايراني والاسرائيلي الآيلين الى التصالح والتعاضد، وبالتالي فليس كثيراً أن يُمنح وظيفة «خدمة ما بعد البيع» لقاء استخدام خبرته في التعامل مع جماعات الارهاب. بعد 24 ساعة على الاتفاق النووي، أمكن أخيراً تحديد موعد لمؤتمر «جنيف 2». هل هي صدفة أم استطراد؟ بان كي مون أعلن ما اتفق عليه الاميركيون والروس، أي أن التأخير لم يكن بسبب عقبات من النظام أو حتى من المعارضة، وإنما للحصول على اتفاق مع إيران، لأن ما بعده لن يكون كما قبله، وفقاً ل «العارفين» الذين يقولون الشيء ونقيضه في توقعاتهم للسلوك الايراني منذ الآن. لكن المساومة لم تبدأ بعد، والقاعدة الايرانية الأولى هي أن أي عطاء يقابله أخذ، فقد تكون البداية في افغانستان حيث لم تكن هناك مشاكل تذكر مع الاميركيين، وإذ يقترب موعد انسحابهم فإن بعض ترتيباته يحتاج الى تنسيق مع الايرانيين، وبين الجانبين تجربة سابقة في الانسحاب من العراق. أما سورية فهي ورقة ثمينة وصعبة، والمطروح ايرانياً هو استعمالها في المساومة الكبرى عندما يحين وقتها وليس التخلّي عنها، نظراً الى تشعّباتها اللبنانية والفلسطينية والعراقية والخليجية، فضلاً عن التركية والاسرائيلية. من شأن ايران أن تقرأ في السكوت الدولي عن تدخلها في القتال في سورية وعدم إدانته أو شنّ حملة عليه، مع إقحامها «حزب الله» وميليشيات عراقية ومقاتلين شيعة من بلدان عدة، نوعاً من القبول لمنعها سقوط نظام الاسد وانهيار قواته. لكن، اذا لم يكن «جنيف 2» سراباً أو خديعة... واذا كان الرهان يتمحور حالياً على حل سياسي، حقيقي ومتوازن، ينبثق منه. واذا كانت القوى الدولية، الصامتة والمتغاضية، معنية فعلاً بإنجاح هذه الفرصة التي باتت ملحّة، فقد حان الوقت كي تحدّد هذه القوى، تحديداً اميركا وروسيا، موقفاً واضحاً من هذا الدور الايراني الذي بات عدواناً سافراً على كرامة السوريين والعرب لا يقلّ إجراماً عن أي عدوان اسرائيلي. من هنا، على الاميركيين والروس أن يقرروا اذا كان استعراض القوة الايراني في سورية يمكن أن يساعد (كما يبدو أنهم يعتقدون) في بلورة حل سياسي أو يسهّله، أم أنه على العكس (كما تظهر الوقائع على الأرض) سيضغط على المفاوضات ميدانياً قبل موعد «جنيف 2» وبعده لتحسين الموقف العسكري - التفاوضي للنظام، وماذا سيكون موقفهم منها في هذه الحال أم أنهم يخططون منذ الآن لحل يبقي النظام ويكافئه؟ * كاتب وصحافي لبناني