هل ينبغي للمتلقي والمستمع لمحاضرة ما أن يمتلك صفات تؤهله لإعادة إنتاج ما احتواه عقله ووعاه مما ألقي على مسمعه؟ هل عليه أن يكون ذا حظ من الوعي الجمالي والأدبي واللغوي وواسع الإطلاع والثقافة، ملماً بهما ومفيداً منهما؟ التلقي مهما كانت وسائله فهو عملية إبداعية أيضاً، يتباين مستواها من خلال التفاعل ومن خلال ما ينتج من هذه العملية التفاعلية سواء في فعل مباشر أم كتابة لاحقة أم بطرح سؤال أو إعادة ترتيب المخزون المعرفي وغربلته كفعل استجابة يعيد صياغة المعاني ويؤولها بحسب ما تفرضه الحاجة النفسية للمتلقي أولاً، ولمسؤوليته الثقافية ثانياً. وبما يرفع من سقف التوقعات وتداخل الآفاق المعرفية بينه كمتلق وناقل، وبين المتحدث أو الكاتب كمبدع محفز للأفكار. أن تنصت خلال ساعة ونصف لموسوعة معرفية ثقافية خلاقة كالبروفيسور ألبرتو مانغويل، الذي شارك ضمن فعاليات مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي قبل أيام، مفتتاً تاريخك القرائي وحياتك التي أفنيتها وسط الكتب قارئاً وباحثاً عن المعرفة، فإن ما ستتوصل إليه هو اكتشاف القارئ الفقير في ذاتك ومعرفتك. أن يقرأك مانغويل يعني أنك تمتلك في الحقيقة مكتبة فقيرة كثيرة الثغرات والفراغات مهما بالغت في الثناء عليها وأكثرت من كيل المديح لمقتنياتك من الكتب والموسوعات، حتماً إنك ستصحو على حقيقة مرة واحدة وهي أنك ما كنت إلا عابراً متجولاً وسط المكتبات، لم تعرفك أشباحها ولم تمسسك تلك القشعريرة اللذيذة حين تلتقط كتاباً بعينه من أحد الرفوف وتبحر قارئاً متفكراً، وقد يذهب الكثير ممن حضر وسمع أن في الأمر صيغة مبالغة وتبخيس لقيمة القارئ الذي هو عليه، وكثير منهم كان مملوءاً بشعور العارف والمعايش لما قاله مسبقاً، لكن الصيغة جاءت في شكل مختلف وممتع، وهذا ما يمكن اختصاره في المقولة التالية: «ليس الهواء الطلق بقدر ما المقصود مردود الهواء الطلق». إعادة صياغة الانفعال ليعيد بعد ذلك صياغة طريقته القرائية الانفعالية، وإخضاعها لمعالجة جديدة تمنحها أصالة وديناميكية متمايزة. إذا كانت القراءة تعّرف الإنسان أكثر مما تعرف الناس كأفراد، فإن قراءة القراءة تعيد تعريف القارئ خارج أفكاره الذاتية وتؤهله للقيام بترتيبات وتحولات جديدة في خريطة القراءة وموضعه فيها. كقارئة، فإن العودة لما قرأته خلال 10 أعوام مضت تحيلني للنظر فيما أملكه حاضراً مع شعور عظيم بأنني أبدأ من الصفر تماماً، وهو أمر شاق حقاً، لكنه يجعلني أضع هذه القارئة المبتدئة التي كنتها يوماً تحت مجهر التمحيص بالمعنى الحرفي للكلمة. كانت فكرتي عن القراءة آنذاك تنصب في أن يهتم القارئ بنوع واحد من القراءة كقراءة القصص والروايات فقط إلى أن وعيت على حقيقة أن القارئ شخص يجب أن يهتم بكل شيء طالما أن المعرفة متاحة، والمكتبات زاخرة بالكتب في شتى المشارب. وكان ذلك تغييراً جذرياً في مسار حياتي في القراءة، إذ لا يمكن تعليب القارئ ولا يمكن أن يحدث ذلك. كقارئة جديدة كنت مأخوذة ومعجبة لحد كبير بأنني وعيت على أهمية لم يكن أحد ممن حولي يهتم لها أو يعطيها حقها، وشعرت بالبركة التي اختصتني ومنحتني رؤية ما رأيت وإدراك ما أدركت. كنت معجبة بنفسي أنني نهمة للمطالعة، شغوفة للمعرفة، وسأبقى ممتنة لهذه المراحل المفصلية في حياة القراءة والكتب ورفقتها لأنها المحفز الأول لتأمل مسيرة القراءة وخطها الزمني. وهذا التأمل والتفكر أشبه ما يكون بمحاولة استعادة أو إلحاق، وإدخالها في حقل التفكير والفحص والاستغراق والمراقبة لتحولات هذه المسيرة كفعل إبداعي كفيل بأن يعيد تحديدها كلياً، وبرؤية وتفكير جديدين يأخذانها إلى شمولية أوسع وإطار معرفي أكبر. إن محاولة التوقف والرجوع والتأمل هذه تعد تقديراً لأهمية العلاقة بين القراءة ومراجعتها وفحصها وفق منظور التداخل والتأثير المتبادل لأجل التوصل إلى مكامن الوهن المعرفي والثغرات التي تجعل من فعل القراءة مشقة ووعثاء خالية من أي قيمة. إنها عملية فكرية جادة تمكن القارئ الحصيف من البحث واكتشاف أشكال جديدة وعلاقة فعلية بينه وبين القراءة والمعرفة من شأنها أن تنتج بعداً جديداً يُنطق فكراً أبكم، ويُنير بصيرة فكر لربما أصابه العمى. فالقراءة التي لا تفكر هي أشبه ما تكون بخلايا ميتة تسد مسام الجسد الحي. هذه الرحلة العظيمة في قيمتها والقصيرة في زمنها مع ألبرتو مانغويل، تجاوزت تحقيقاتها الموقتة من التقاط صورة معه أو طلب توقيعه على كتاب من كتبه، إلى الحصول على التصور «الرؤيوي» في حده اللامتناهي، وتحقيق الفوران الدائم للقراءة كإبداع يتجاوز تحريك الشفاه إلى تحريك الروح. * مترجمة وكاتبة سعودية.