في أمسية من الأمسيات الثقافية لمجلس الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي الرمضاني قبل أربعة أعوام تقريباً، ألقيت محاضرة بعنوان: «إحياء المدرسة العقلانية الإسلامية»، ولاقت في ما أظن استحسان الحضور الكرام، وعزمت بعد تلك المحاضرة أن أتابع البحث والدراسة في هذا الموضوع، لكي أحاول أن أغوص في إشكالاته وأسباب غياب مدرسة العقل عن رسم صورة معقولة للنهضة الإسلامية والعربية المفقودة منذ أكثر من سبعة قرون، ولكن الكسل الفكري والانشغال بأمور الحياة الأخرى جعل قراءاتي ودراساتي محدودة في هذا الاتجاه. وقبل أيام عدت من جديد للنظر في الأفكار التي سطرتها في مسودة المحاضرة، ووجدت أن بعضاً منها يصلح لأن يطرح من جديد في مثل هذه المقالة وربما مقالات مقبلة، وبخاصة أن أحداثاً عظاماً لامست شغاف قلوب بعض العرب، وأنعشت آمالهم بنهضة جديدة، ومن أهم تلك الأحداث بلاشك ثورات الربيع العربي التي لا تزال تداعياتها تحرك الرمال التي سكنت لفترة طويلة من الزمن. فبعد أن فشل خيار «الجهاد» المسلح الذي قادته جماعات متطرفة خلال 20 عاماً في إحداث تغيير حقيقي في واقع المسلمين، فشل أيضاً ما يسمى ب«الإسلام السياسي» الذي وصل إلى سدة الحكم بعد ثورات الربيع العربي في تقديم نموذج يمكن أن يكون مقبولاً في الإطار السياسي المحلي والدولي المعاصر، وفي الوقت نفسه يقدم مشروعاً متسقاً مع المقاصد العظمى لقيم الدين الحنيف ورسالة الإسلام الخالدة. وقبل ذلك وبعده يظهر قصور الفقه الديني السلفي في الاستجابة لحاجات الحياة المعاصرة وتعقيداتها وتنوعها، وفي تقديم نموذج متماسك يجعل الإنسان يعيش بحرية وطمأنينة وسلام وانفتاح على الآخرين وفي الوقت نفسه ملتزم بأصول الدين وقيمه العظمى. اعترف المفكرون الإسلاميون الكلاسيكيون المعاصرون بتخلف المسلمين الحضاري في كل نواحي الحياة تقريباً. فعلى رغم المزايا التي منحها الله للمسلمين من ثروات طبيعية هائلة ومواقع جغرافية مميزة وثروات بشرية شابة، وقربهم من مصادر المعرفة والتقدم التكنولوجي الغربي، فتلك الميزات تحولت إلى عوائق ومثبطات لروح النهضة التي بحث عنها المسلمون منذ سقوط الأندلس حتى اليوم. لكن معظم من كتب عن أسباب تخلف المسلمين أرجع ذلك إلى عوامل خارجية تتعلق بالاستعمار والمؤامرات الغربية التي سعت إلى الحيلولة ضد امتلاك المسلمين والعرب لمفاتيح العلم والتقدم الحقيقي، فيما أرجع البعض تلك الأسباب إلى الأنظمة السياسية التي يرون أنها عميلة للغرب، تنفذ أجندته وتعمل على إبعاد المخلصين عن مواقع القيادة والتأثير في الأمة، فيما حاول البعض الآخر الإسهاب في جوانب تقنية مثل الاستبداد السياسي أو عدم الاهتمام بالبحث العلمي أو إلى ضعف التكامل الاقتصادي أو إلى غياب الأهداف الاستراتيجية. والبعض الآخر يحيل الموضوع إلى أسباب أخلاقية، فيرى أن عوامل التخلف تأتي بسبب انتشار المعاصي والموبقات وشيوع الفساد والظلم وهدر الحقوق وغير ذلك. لكن مؤشرات فشل ثورات الربيع العربي ومآلات تأزم الوضع الراهن على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، تؤكد أن المشكلة الأساسية ليست في تلك العوامل التي ذكرت آنفاً، بل إنها في الأساس تعود إلى سبب أعمق من ذلك بكثير، وهو ما أسماه بعض المفكرين بأزمة العقل العربي والمسلم، وليست بأزمة إمكانات ورغبات ونوايا وأماني وإخلاص. لقد كشفت الأحداث أن العقل العربي والمسلم بعيد جداً عن مهارات التفكير السليم، ولم يستطع إيجاد المؤسسات والمناهج التي تقود إلى التحليل والتشخيص العقلاني للواقع بصورة صحيحة، ومن ثم اتخاذ المواقف المناسبة والملائمة للتغلب على المشكلات والتحديات ورسم الخطط للتقدم إلى الأمام. والمسألة لا ترتبط بفصيل أو تيار سياسي معين، فأزمة العقل متساوية لدى الجميع، سواء لدى أولئك الذين يرفعون الشعارات الدينية أم أولئك الذين يرفعون الشعارات القومية والوطنية. فالجميع يتخبط في مواقف متناقضة واتهامات متبادلة وهروب جماعي من تحمل المسؤولية الأخلاقية والمعنوية، والبحث عن الذرائع من خلال مواقف الآخرين، وليس من خلال قصور عقولهم في فهم الواقع وتقديم الحلول العقلانية التي يمكن أن تنجح على الأرض، لمعالجة المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة. إذاً لا بد من أن نعود إلى الموضوع الأول من خلال إعادة إحياء مدرسة العقل في الفكر الإسلامي، وتقديم نموذج تربوي وتعليمي جديد يعيد تشكيل وبناء عقول الأجيال المقبلة منذ الصغر من مراحل التعليم الباكرة بمنح الطفل مساحة من الحرية المسؤولة، لكي تساعده في بناء مهارات التفكير والتأمل والاستكشاف والنظر في الأمور من دون عقد، وتعطيه الثقة للتعبير عن نفسه وعن آماله وآلامه مع رعاية حانية وتوجيه أخلاقي سليم من دون وصاية وتكبر، مع عدم الاحتفاء بنموذج «الصحوة الكاذبة» التي اهتمت بالمظاهر، لتتوافق مع الفتاوى الفقهية الصارمة والرقابة الاجتماعية المهلكة، وفي الوقت نفسه الاحتفاء بالنماذج الناجحة مهما كان ميدان نجاحها بسيطاً ومحدوداً، وإبعاد التعليم قدر الإمكان من ميدان السياسة أو جعله ميداناً للتنافس الفكري والآيديولوجي المقيت. * أكاديمي سعودي. [email protected]