أواظب، قدر المستطاع، على مشاهدة برنامج تلفزيوني لبناني سياسي وحيد، هو برنامج (الفساد) الذي يجرؤ، على الأقل، على حمل اسمه، وعلى نقل الفساد من دائرة الحكايات الشفهية إلى دائرة المرئي والمسموع. أواظب رغم إدراكي أن البرنامج يتفادى تناول رموز عريقة في الفساد وأخرى طارئة، اشتهرت باستغلال نفوذها وبتفاصيل فسادها، أي عدم تصديه بمنهجية وإصرار لإثراء العديد من السياسيين الكبار والصغار وكبار الموظفين والأزلام والمحاسيب إثراءً غير مشروع. يتوقع المهتمون بقضايا الفساد من هذا البرنامج تفعيل «قانون الإثراء غير المشروع» المعطل، والحلول باسم الناس محل الدولة. يرجح أن تكون خطوط البرنامج الحمراء وليدة توجهات المحطة السياسية أو وليدة خوفها من استثارة المشاعر الأهلية الهائجة أصلاً أو... أو... بأية حال يتعذر من بلد مهتاج كلبنان تسمية الأشياء بأسمائها. يبقى للبرنامج المذكور فضل التطرق للعديد من الملفات الساخنة التي تتكتم عليها سائر وسائل الإعلام الجماهيرية اللبنانية. ينخر الفساد مؤسسات الدولة اللبنانية جمعاء، القديمة والمستحدثة: الكهرباء، النفط، المياه، الهاتف الخليوي، الإنترنت، البريد، النقل، الجمارك، الدوائر العقارية، الأشغال العامة، القضاء، الأمن، التربية والتعليم، الضمان الاجتماعي، البيئة، الأملاك البحرية والنهرية والبرية، البلديات، المجالس الإعمارية والتنموية، دوائر الميكانيك والمعاينات الميكانيكية، وغيرها من المؤسسات، بحيث يندر أن تنجو مؤسسة من تلوثه. لم تنجح الحكومات المتعاقبة منذ التسعينات في معالجة ملف فساد واحد أحد، لأن المتورط هو غالباً من أهل البيوت السياسية المهيمنة وأنصارهم، لا بل أن القوى السياسية تتبادل الصمت والكتمان حول هذه الملفات، لئلا تخسر بالطبع مكاسبها ويفتضح أمرها، وإن حدث وفضح بعضهم بعضاً، فمن أجل الابتزاز والضغط المتبادلين، ولكن سرعان ما تطوى الصفحة ويمضي كل في سبيله. أواظب على مشاهدة وقائع الفساد بخواصه اللبنانية لأشهد وأجمع الأمثلة على تكافؤ الحكام اللبنانيين أمام عمليات نهب واختلاس الأموال والممتلكات العامة، وعلى تواطئهم في طي الملفات وإخمادها وإغراقها في غياهب النسيان، وعلى استعدادهم لإغفال خلافاتهم السياسية - السياسوية من أجل اقتسام المغانم، بحيث يبادرون عند الضرورة إلى الدفاع عن مصالح الخصوم المالية، إذا تقاطعت هذه الأخيرة مع مصالحهم، وتوازنت، وهذا ما حدث جهراً حين انتصر أحد الوزراء المناوئين ل «تيار المستقبل»، أي المحسوبين على ما يسمى فريق 8 أذار، لشركة محسوبة على هذا التيار، لأن لفريقه فوائد يجنيها منها. وماذا لو علمنا أن أحد المساهمين في الشركة هو الآخر من عداد خصوم «المستقبل» الانتخابيين البارزين! أواظب لأشهد بمرارة، ومن دون مازوشية، علماً أن متابعة هذه الوقائع تحتاج إلى قدر منها، على انحلال القوانين والروادع، وعلى غلبة الأهواء السلطوية العظامية على المسؤولية السياسية والأخلاقية العامة، خلافاً لواجبات الحكام القاضية بحماية القوانين وفرض احترامها، حمايةً للديموقراطية والحريات والعدالة. أواظب لأشهد على أن المجتمع الفاسد هو مجتمع أصبح فيه الناس عاجزين عن التمتع بحريتهم، فالسلطة العادلة النزيهة هي الشكل المحسوس الذي تتخذه الحرية لنفسها والفساد يتعرض للطريقة التي يتبين فيها الناس أنهم قادرون أو غير قادرين على ممارسة هذه الحرية، فحين تتداعى القوانين والضوابط يفقد الجميع حرياتهم، وليست حرية اتباع الأهواء والأطماع والنزوات، سوى عبودية من نوع خاص، من النوع الذي يصادر، وبشكل مفارق، حريات الآخرين وحقوقهم. أواظب لأشهد على أن الفساد المنظم يتيح لذوي السلطة والنفوذ واليد الطولى، الربح والرفاهية والبذخ، بلا عمل ولا كدح، على عكس العامل، إلى أية شريحة مهنية انتمى، الذي يكدح ليشتري قوته، ويؤوي جسده، ويسد حاجاته، فثقافة الفساد هي أصلاً ثقافة معادية للعمل والجدية والإنتاجية، والمواطن – العامل، الذي لا يتلقى مكافأةً لائقةً عن عمله، فيما ترده يومياً أخبار الفساد وسرقة المال العام، يفقد شعوره بقيمة عمله وجدواه ومردوديته. فإذا تعذر على غالبية الناس أن تعيش بكرامة من ثمرة أعمالها، فيما الآخرون يرتعون بالنعم، لمجرد كونهم قوة سياسية أو ميلشيوية، سيفقد العمل كرامته واعتباره، مما يساعدنا، نسبياً، على فهم سر إحباط الموظفين الصغار في الإدارات العامة ولامبالاتهم. وإذا قاوم العامل الجدي الملتزم الفساد الأخلاقي الذي يتسبب به الفساد، فهو يقوم ببناء مرجعية خاصة به، لاغية للمرجعيات الأخرى، الماثلة أمام ناظريه، سعياً إلى صيانة صورته الإيجابية عن ذاته، وإلى التصالح مع منطلقاته الأخلاقية. أواظب لأشهد على أن اقتناع المواطنين بأن مؤسسات الدولة ليست سوى أمكنة تمر فيها عمليات السلب والخداع والالتفاف على القانون، يجعلهم عاجزين عن التعلق بها، ويجدون أنفسهم أمام خيارين، إما المشاركة في هذا الفساد العام، إذا تسنى لهم، وإما الانطواء على النفس واللامبالاة، وإما مراكمة الغضب حتى يحين زمان قطاف الثورة على الفساد. أواظب لأشهد على سادية الحكام اللبنانيين وفظاظتهم ولامبالاتهم أمام تداعيات عبثهم، وعبث أزلامهم ومحاسيبهم، ولألمس أن الاستبداد لا يقوم على كم الأفواه والقبض على العقل والخيال فحسب، بل أيضاً على اللامبالاة واللامسؤولية والعبث. ومن جهة أخرى، لا تنسجم حيوية الفساد وديناميته وديمومته مع سياسات التعطيل على مستوى المؤسسات الدستورية اللبنانية، التشريعية والتنفيذية، وكأن حكومة الفساد السرية هي حكومة البلاد الأصيلة، والحكومات المزعومة شرعيةً وفعليةً، هي حكومات الظل، تتعطل الحكومات والمجالس النيابية ولا يتعطل الفساد. والتعطيل هو بحد ذاته فساد من طينة أخرى، ولكن مماثلة. وأخيراً، أواظب لأشهد على أن أي حديث عن الديموقراطية هراء، حين يغلب الخاص على العام، وتطغى مصلحة الفرد على مصلحة المجموع. * كاتبة لبنانية