ما حال من يدعي التدين وهو على النقيض من التحلي بأخلاق الإسلام وقيمه، إلا كمن يهتم ويعتني بتنظيف ظاهر الكأس ويترك باطنه متسخاً؟ وكالقبور المجصصة، ظاهرها جميل، وباطنها عظام نخرة، هي أزمة حقيقية نعيشها في مجتمعاتنا حينما نعيش ذلك التناقض الصارخ بين فعل التدين من جهة ومردوده الأخلاقي على المجتمع من جهة أخرى التي أسهم الخطاب الديني في صورة رئيسة في خلقها وتفشيها، فكل مراقب ومتابع يدرك أن خطابنا الديني في المنابر والمساجد وشاشات التلفزة وغيرها وعلى مدى عقود من الزمن قد كان جل همه وتركيزه هو تحقيق التدين والسمت الظاهري في المجتمع في وقت همش فيه في شكل واضح للجوانب الأخلاقية والروحية، على رغم أن الدين الإسلامي أعلى كثيراً من منزلة الأخلاق والتعامل بين الناس، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق»، وأن أحب الناس وأقربهم منه منزلة يوم القيامة هي لأحسنكم أخلاقاً، ولم يجعل مثل ذلك الفضل الكبير في تحقيق الهدي الظاهري كاللحية وغيرها من أعمال السلوك الظاهري للرجل أو المرأة. فشل هذا الخطاب في بناء منظومة أخلاقية متماسكة في نفوس أفراد المجتمع، بحيث يكون لها أثرها في الواقع الملوس، بل فشل قبل ذلك أصلاً في مجرد التنظير والطرح النظري لها والاعتناء بها، فقد كان اهتمام الخطاب الديني وما زال يرتكز في معظمه فحسب على حقوق الله تعالى من الناحية العقدية أو العبادية، فجل اهتمام العالم في فتواه أو الخطيب أو الداعية في منبره هو مجرد الدعوة والأمر إلى امتثال أوامر الله والزجر على اجتناب نواهيه والانشغال بدقائق تلك الأمور وتفاصيلها وضرورة الالتزام بها وذلك على صعيد الرجل والمرأة، على رغم أن جميع تلك الأمور تبقى في حيز الإطار والجانب الشخصي في العلاقة بين العبد وربه، وأما العناية والاهتمام بالجانب الأخلاقي والتحلي بصفات الصدق والأمانة والعدل والمراقبة والتحذير من نقيض ذلك، وحسن التعامل مع البشر كافة (مسلمين وغير مسلمين) وغرس ذلك في نفوسهم وضمائرهم، بحيث يكون ذلك منهج حياة لهم في بيوتهم وأعمالهم ومع زوجاتهم وأولادهم وفي السر والعلن، فقد كان من أواخر الاهتمامات في هذا الخطاب، وأن أدعو ذلك، فهي مجرد دعاوى لا برهان يصدقها من الواقع العملي، حتى صنعنا من خلال ذلك تديناً مغرماً بالمظاهر والأشكال، ولا صلة له بالمضمون الأخلاقي والروحي السامي لفكرة التدين. أصبحنا نرى حينما تتصاعد حدة وتيرة النقاشات والجدل تجاه عديد من القضايا الجدلية في المجتمع من حين إلى آخر، وخصوصاً حينما يكون الأمر متعلقاً بقضايا المرأة، نلحظ في شكل واضح وجلي من أقوال بعض المعارضين لها، سواء أكانوا دعاةً أم وعاظاً أم من دون ذلك ممن ينتهجون ويلجأون إلى شرعنة الشتم والبذاءة والإسفاف، أي إباحة تسويغ استخدام الألفاظ البذيئة والسلوكيات العنيفة ضد من يختلفون معهم لمجرد الانتصار لموقفهم، وهم على دراية وعلم بأن الإسلام يُدين البذاءة وسوء الخلق والفجور في الخصومة والفحش في القول والعمل، وأصبحت تلك النقاشات في شبكات التواصل الاجتماعي تنضح بمختلف أنواع وألفاظ الشتم والاتهام والتحريض ضد من يختلف معهم في صورة تنافس محموم على أقذع المفردات والألفاظ، وكأن تدينهم لا يكتمل إلا بممارسة الشتم لمن يخالفهم في آرائهم وتصوراتهم، وهو ما يجعلنا نؤكد مراراً القول أننا لسنا بحاجة إلى مزيد من جرعات التديين، فما لدينا قد فاض به الكأس، وإنما نحن بحاجة ماسة إلى جرعات مكثفة على مستويات عدة في التخليق وتهذيب النفوس، فنحن نعيش في مجاعة وقحط أخلاقي في مقابل تخمة دينية في كل مكان. نحن في حاجة إلى جهود متكاتفة وخطاب يكون قادراً على بناء شخصية المسلم من جوانبها الروحية والخلقية والنفسية كافة، والاستفادة في ذلك من العلوم المعاصرة في علم النفس والاجتماع، وعلى تحويل القيم الأخلاقية إلى واقع ملموس ومشاهد. * كاتب سعودي. [email protected] @hasansalm