لا ينتمي كتاب «الوحدة تدلل ضحاياها»، وهو الأول للكاتب الكردي السوري دارا عبد الله، إلى جنس أدبي محدد، وإنما هو عبارة عن نصوص حرة، مفتوحة تتأرجح بين اللغة الشعرية المرهفة، والسرد القصصي. بين هذه وتلك يمضي عبدالله في تدوين يوميات المشهد السوري القاتم، وتوثيق مسارات التيه والضياع من منظور ذاتي محض بعيداً من الانفعال والايديولوجيا والشعارات الكبرى، فالايديولوجيا، كما يصفها عبدالله، هي «نعل متعفن لحصان كهل، متعب كفَّ عن التقدم». الكتاب الصادر، أخيراً، (دار المسعى، المنامة، 2013)، يتضمن نصوصاً هادئة ذات نبرة خافتة تلتقط لحظة الألم بالضبط، من دون الإسهاب في شرح السياقات والظروف المحيطة، محاولاً تطبيق تلك المقولة التي يرددها الأدباء للنفري: «كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة». يسعى الكاتب، عبر لغة بليغة لمّاحة، إلى التركيز على «بؤرة الحدث»، على البرهة الحاسمة، برهة القتل والضغط على الزناد، والزمن الذي يستغرقه الرصاص في طريقه من فوهة البندقية إلى صميم القلب، هو زمن قصير وعابر لكنه حاسم في تغيير المصائر والأقدار، وهو ما يشد انتباه الكاتب الذي يحاول التمعن في «عذرية مشهد الموت»، وما تحمله من دلالات وأوجاع «الطفلة الناجية من المجزرة نظّمت عقداً من فوارغ الرصاص الذي تفجر بأجساد أهلها، الخيط كان فزعها»، ويقول في نص آخر: «دفنوه والرصاصة في جسده، أصبح العشب فوق المقبرة أسلحة». الكاتب عبدالله، الذي اعتقل لفترة في السجون السورية قبل ان يستقر في المانيا، يُؤول كل ما يقع تحت عينه من خلال تجربته الذاتية ومرجعياته وثقافته وقناعاته، وهو يحاول أن ينظّر للمسائل كي يمنحها أبعاداً وجدانية، انسانية بعيداً من المشاهد التي تتكرر على نحو ممل في شاشات التلفزة ووكالات الانباء. يدون نشيد الألم السوري، نشيد المنفيين والنازحين والمعتقلين والشهداء... يصف «الزنزانة المنفردة» التي حلّ فيها ومدى ضيقها وقدرتها على منح الألم، وينقل كتابات رسمت على جدران تلك المنفردة علقت في ذهنه. يرافق رحلة العذاب والضنك والوحدة من دون صرخات أو دماء أو جثث، بل يستظهر المكابدات في أقسى صورها، وأبعدها تأثيرا، ويجتهد في تدوين ألوان المحنة منحازاً لصورة الضحية كرمز وأمثولة وعنوان للإيثار. ولئن كان ما يرصده عبدالله يقال مراراً في الفضائيات والاعلام والصحف غير أن هذا الفيض من الأخبار التي كادت أن تفرغ من بعدها الفجائعي، التراجيدي، تتحول لدى الكاتب إلى بحث في ما وراء مشهد الدماء والقتل، وإلى مرافعة أخلاقية في مواجهة القمع والتسلط. نصوص تنشد الخلاص وتروي ما يصعب رؤيته كحكاية ذلك السجين الذي حل في المهجع لفترة قصيرة وكان يعاني من جروح غائرة نتيجة التعذيب إلى أن أسلم الروح، وليس عبثاً أن هذا النص يحمل عنوان «المسخ» فهو يحيلنا، رغم قصره، إلى مسخ كافكا وإلى سرديات تراجيدية كبرى صورت عذابات البشر الذين «ماتوا ورؤوسهم محنية»، لكن معنى الكرامة والنبل كان يشع من أرواحهم، وحلم الحرية المنتظر، الذي لا يعرفه الجلاد، كان يمنحهم القدرة على الصبر والجلد. ولا تخلو هذه النصوص من نفحة فلسفية، فهي تنطوي على شيء من الحكمة والتأمل، وتثير أسئلة مقلقة حول طبيعة البشر وكيف لها أن تهبط إلى الحضيض أو تتسامى إلى مراتب رفيعة، فرغم صغر سن الكاتب (1980) إلا أنه يجتهد في اقتناص العبرة المبثوثة في ثنايا اليومي والعابر، فهو يقول، مثلاً «الشمس تصنع ظلاً لكل الأشياء، ولا تمتلك ظلاً»، أو يقول «لأن اللون الأسود يبقى أسود، فإن الثعلب الأسود ينتظر ذوبان الثلوج حتى يتخلص من لعنة الصيادين». وفي عنوان الكتاب ما يشي بمثل هذه التأويلات الخاصة، إذ يقول في نص يحمل عنوان حروب» مئات القتلى في المجازر الجماعية تضمحل اسماؤهم، في حين أن قتيلاً واحداً يصبح نجماً، الوحدة تدلل ضحاياها».