لا يمكن أن يحدثك الباحث الإسلامي عبدالرحمن الخطيب عن تجاربه مع «الإخوان» من دون أن يتضمن ذلك تفاصيل كثيرة من حكايات «الدمع» و«الدم»! ولا بدّ من أن تكون قادراً على التماسك قدر الإمكان وهو يروي لك هذه الأحداث التي لا تكاد تصدّق أنه يستطيع البوح بها لولا أنه «بشحمه ولحمه» يحكيها لك، ويتبادر إلى ذهنك سؤال وحيد حين ينتهي الخطيب من حكايته: كيف بقيت حياً بعد كل هذه الأحداث والعذابات؟ يجيب الخطيب عن سؤالي له عن سبب تركه سورية قبل ثلاثة عقود، وعلاقته بالإخوان فيها قائلاً: «جواباً على استفسارك عن سبب تركي سورية منذ 31 عاماً، وتاريخي النضالي. فكما تعلم بعد أن استتب الوضع لحافظ الأسد، كان هدف النظام جعل الشعب السوري كله ينتسب إلى حزب البعث؛ لذا كان من يرفض الانتساب يعدّ عدواً للنظام، وتدور حوله الشبهات، وتتعطل مصالحه العامة والخاصة، فلا عقيدة إلا عقيدة البعث. حين كنت في المرحلة الثانوية سألت والدي - رحمه الله - عن رأيه بأن أنتسب إلى حزب البعث. فأجابني بجملة مختصرة لن أنساها: «يا بني، البعث سيزول وسيبقى الإسلام وسورية». كان يكفي، تلك الأيام، أن يذهب أي مواطن سوري تحت سن ال60 للصلاة في المسجد، في غير صلاة الجمعة، ليخضع للمراقبة ليل نهار. وكان يكفي أن يُكتب تقرير سلبي في حقه، ليرمى في غياهب السجون. وعدد العسس وأزلام النظام كانوا، وما زالوا، أكفاء لهذا الأمر، فهم أكثر من عدد المواطنين العاديين». وعندما أوجه له سؤالاً مباشراً: ماذا عن علاقتك بالإخوان؟ هل تستطيع أن تصفها لي وصفاً دقيقاً؟ يجيب: «علاقتي مع بعض «إخوان» سورية علاقة مصاهرة، وأخوة، وصداقة، ولكني لم أنتسب يوماً إلى جماعتهم، وأوضح دليل على هذا، لو أنني من الإخوان لوجدتني في الصفوف الأمامية في الائتلاف. آل الخطيب الحسنيون من أعرق العائلات الدمشقية، المشهور عنها التزامها الديني. كان والدي - رحمه الله - إمام مسجد، وكنت أحضر بعض الدروس الدينية. في مطلع عام 1979 اعتقلتني عناصر المخابرات في فرع الأمن السياسي في «جادة الخطيب»، وكان يترأسه آنذاك العقيد نزار الحلو، من الطائفة الشيعية». وعن تفاصيل عذابات «القبو المظلم» يتحدث الخطيب بحرقة: «نزلت إلى قبو مظلم لا يعلم بحاله إلا الله وحده. في الأيام الأُول وضعت في زنزانة مظلمة بطول متر ونصف المتر، وعرضها نصف متر. كانت شطيرة الخبز اليابس، المدهونة بملعقة واحدة من اللبنة أو الحمص المطحون، تمرر لي من بين قضبان الحديد، ثلاث مرات، بالتناوب من دون أي تغيير في داخلها. كان يُسمح لي بالخروج إلى الحمام يومياً مدة خمس دقائق فقط؛ لكي أقضي حاجتي، أو أستحم بصنبور ماء بارد. وتعرضت إلى شتى أنواع العذاب الذي لا يتصوره عقل. بعد ذلك نقلت إلى زنزانة جماعية، اجتمعت فيها بمعتقلين أبرياء لا ذنب لهم إلا أن قالوا: ربنا الله. وضعوا بجانبي في تلك الزنزانة عنصر مخابرات، ادعى أنه سجين من حركة الإخوان المسلمين، بحركة تمثيلية ساذجة لاستنطاقي. وحين تأكد لهم أنني لا أنتمي إلى تلك الحركة، وبعد 28 يوماً من التعذيب والتحقيق أفرج عني». ويستطرد متحدثاً عن الاعتقالات المستمرة والعذابات المتتابعة: «بعدها بأشهر اعتقلت في فرع مخابرات الجمارك مدة يومين، وكان المسؤول عن ذلك الفرع آنذاك الرائد أسعد صباغ. ثم نُقلت منه إلى سجن تدمر العسكري، حيث بقيت فيه 13 شهراً، ذقت فيها شتى أنواع التعذيب. كنت، أحياناً، أتحزر أنا وزميلي في الزنزانة في الباحة السادسة، وهو ضابط طيار من مدينة حمص، عمن سيأتي دوره من المعتقلين في الفلقة اليوم. كان مدير السجن الرائد فيصل غانم من الطائفة العلوية، يرهب المعتقلين، إلى درجة أن أحدنا لا يجرؤ على النظر إلى وجهه مباشرة، إذ كان مرافقوه يجبروننا على رفع رؤوسنا إلى السقف أثناء تفقده المعتقلين. كان جلادوه لا يوقفون الضرب إلا بأمر منه، حتى ولو شاهدوا الدم يخرج من أسفل قدمي المعتقل. بعد مدة من الزمن نصحني أحد زملائي في الزنزانة، لكي يتوقف الجلادون عن ضربي، أن أقول للرائد غانم كما يقول له الآخرون: «إكراماً للإمام علي»؛ لأنهم عرفوا نقطة ضعفه، وهي شدة تعصبه للمذهب العلوي». ويضيف: «في سجن تدمر كان كل شيء ممنوعاً، حتى الصلاة، ولا توجد مصاحف، ولا أوراق أو أقلام. كنت أقف على الأخبار من المعتقلين في الباحة الأولى، التي كان فيها خمسة مساجين فقط، هم الذين قاموا باغتيال اللواء محمد عمران في بيروت. أو أحياناً أستمع إلى المذياع الذي كان يمتلكه بعض المعتقلين بتهمة التجسس لصالح إسرائيل في الباحة الخامسة. هاتان الباحتان كانتا تعتبران زنزانات V I P. خرجت من سجن تدمر محطماً نفسياً؛ لذا قررت مغادرة سورية، ولم أعد بعدها». بعد هذا الفاصل من هذا البوح كان لا بد لي من أن أعود مع الباحث الإسلامي إلى المحور الذي يجري الحديث حوله، فسألته: قبل الولوج إلى وضع الإخوان السوريين في السعودية، حدثني عن كيفية ارتباط الإخوان بعضهم ببعض بين مصر وسورية؟ فأجاب: «حركة الإخوان المسلمين في سورية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحركة الإخوان في مصر. ففي عام 1933 حين أصدر إخوان مصر أول صحيفة لهم، اختير أحد أفراد عائلتنا مديراً لها، وهو الشيخ محب الدين الخطيب. وفي سورية بدأت حركة الإخوان المسلمين مرحلة التأسيس والعمل العلني منذ عام 1946، وكان من أبرز مؤسسيها الشيخ مصطفى السباعي. وهو أول مراقب عام للإخوان المسلمين في سورية. منذ عام 1953 بدأ الانشقاق بين أعضائها، ولكن زعيم الحركة مصطفى السباعي، صاحب الموقف الليبرالي الإسلامي، استطاع التغلب على معارضيه يومذاك. كما أن خلفه عصام العطار عارض موقف المهندس مروان حديد الذي انتهج منهج العنف والعمل العسكري، وشكل كتائب محمد، وقام بتنفيذ ما عرف بعصيان حماة عام 1964». ويضيف متحدثاً عن الانشقاق الإخواني/ الإخواني: «هذا الخلاف أدى إلى انقسام جماعة الإخوان إلى ثلاث: جماعة حلب بزعامة عبدالفتاح أبوغدة، وجماعة دمشق بزعامة عصام العطار، وجماعة حماة بزعامة مروان حديد. في عام 1973 انتخب عدنان سعد الدين مراقباً عاماً للحركة، فما لبث أن فصل مروان حديد، ولكنه مع ذلك تبنى العمل العسكري ضد الدولة، وورط معه الكثير من القيادات الإخوانية، مثل عصام العطار ونائبه حسن الهويدي. بعد وفاة مروان حديد تحت التعذيب في السجون السورية انتقلت الحركة من موقفها السياسي السلمي إلى مرحلة العمل العسكري والعنف، الذي اشتمل على بعض التفجيرات هنا وهناك، واغتيال بعض الشخصيات السياسية والفكرية والعسكرية البارزة في الحكم». وسألته: ولكن ما علاقة هذا الأمر بما كان يجري في الوسط السوري، هل كان انتقال الإخوان إلى العمل المسلّح في سورية بسبب التعذيب والاعتقالات؟ أم أن هناك أسباباً إضافية؟ ويجيب الخطيب: «بدأت مرحلة التمييز الطائفي تطفو إلى السطح، فكان توزيع المناصب السياسية والعسكرية الحساسة في الدولة يتم على أساس طائفي بحت. إلى أن وقعت حادثة مدرسة المدفعية؛ ثم حادثة مدينة حماة، إذ احتل بعض عناصر التنظيم مراكز للأمن في المدينة، نتجت منها مواجهات مسلحة مع قوات الأمن والجيش مدة 20 يوماً؛ ما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف من الأبرياء. واعتقل الكثير من أعضاء التنظيم وهرب الكثير منهم». ثم ينتقل الخطيب إلى ما ولّده هذا الاضطهاد من ضغوط أدّت إلى نوع من الارتخاء في الخط الإخواني العنيف في سورية، فيقول: «في منتصف الثمانينات كان هناك تياران: تفاوضي حواري مع الحكومة ضم عبدالفتاح أبا غدة وعلي صدر البيانوني. وآخر صدامي جهادي بقيادة عدنان سعد الدين الذي دعم البيانوني في انتخابات المراقب العام للتخلص من عبدالفتاح أبي غدة؛ بسبب دعوته الجدية إلى التفاوض مباشرة مع الحكومة السورية. ثم حصل تبدل في المواقف بين جناحي الإخوان، إذ تحولت أفكار عدنان سعد الدين إلى مزيد من التشدد في مقابل دعوة حسن الهويدي إلى الحوار مع الحكومة. وبدأت بالفعل ملامح هذا الحوار بمبادرة شخصية قام بها أمين يكن، أفرج بعدها حافظ الأسد عن 1500 عضو من أعضاء الحركة كانوا معتقلين منذ أعوام طوال». ويتابع الخطيب: «وبالمقارنة، فإن فكر الإخوان، سواء في مصر أم سورية، هو فكر سياسي نفعي، وميكافيلي، وديماغوجي في آن واحد. إذ تمكن إخوان سورية من ركوب موجة الثورة السورية، التي لم يكن لهم أي دور في اندلاعها، كما حصل في مصر. اهتبلوا تلك الفرصة التاريخية، فهرعوا إلى الإعلان عن تأسيس «المجلس الوطني» في إسطنبول، واستأثروا بقراراته، واستغلوا المساعدات المادية التي قدمتها دول العالم للشعب السوري في شراء موالين لهم على الأرض، وفي شراء الذمم. والمتابع لأخبار الربيع العربي بشكل عام، والثورة السورية بشكل خاص، يلاحظ كثرة الانتقادات لدور المال السياسي في شراء الولاءات. فكما حدث في مصر حول دور المال الذي قدّمه الإخوان المسلمون قبيل الانتخابات التي أوصلتهم إلى الحكم، الشيء نفسه يحصل الآن في سورية، حيث الصراع على أشده لشراء الإخوان ولاءات الثوار على الأرض، لدعم مواقف شخصيات إخوانية بشكل عام، والكتائب المقاتلة التي تعمل تحت عباءتهم بشكل خاص، وعمدوا إلى استقطاب وتسخير وشراء شخصيات وأجنحة وكتائب مقاتلة، حتى تكون رأس حربة لهم في مواجهة أي معارض لفكرهم في الداخل بعد سقوط النظام، مثل لواء الفاروق وغيره». وأضاف: «الإخوان بعامة منهجهم في توظيف المال السياسي في الثورة السورية ليس فقط المال الذي يُغْدَق على شراء الأصوات لإظهار الديموقراطية في أبهى حللها. إذ تُسْتَغَل الحالة المادية المُعدمة للمواطن السوري في شراء الولاءات لإظهار اسم الداعم المالي كونه من جماعة الإخوان، ولكن في حقيقة الأمر غايته الأساسية هي الوصول إلى كرسي الحكم في ما بعد. بل أصبح المال السياسي يُدفع إلى القنوات الفضائية، ولأصحاب المنابر الإعلامية، وأصحاب الأقلام الذين يبيعون مواقفهم ومبادئهم العقدية والآيديولوجية، وقناعاتهم الشريفة والوطنيّة، في مقابل لمسة ديموقراطيّة صغيرة «كاش»؛ ليتحولوا إلى أبواق للمعارض الفلاني أو التيار الفلاني.