هي معركة مصر القادمة، ومعضلتها القائمة، وآفتها المزمنة. وهي قرة عين لاعبيها، ومنغصة حياة مشتاقيها، وحائط مبكى مطروديها، وصمام أمان منظريها. ولا يمكن إغفال كونها معيار نزاهة مخططيها، ومقياس شفافية مؤجليها، وحلم عودة مطروديها. ولا يخلو الأمر من كونها فرصة عمر متحذلقيها، ولحظة انقضاض مذبوحيها، وخيال شاطط لنخبوييها. ربما تكون قبلة حياة لموتى سريريين، أو نفخة روح لأجنة سياسيين، أو إجهازة على سلطة لفلول مراوغين. ورغم تلك الأجواء المحمومة، والمخاطر المحفوفة، والخطوات الملغومة، والنتائج المطموسة، إلا إنها لا تشغل بال القاعدة العريضة، أو تؤرق مضاجع الطبقات الكثيرة، أو تحتل حيزاً في النقاشات العتيدة. لكنها تظل شراً لا بد منه وفق الشعور الشعبي، وخيراً لا بديل عنه وفق المأمول الحزبي، ونفيراً عاماً لا محيص عنه وفق الشريعة «الإخوانية»، وموعداً محدداً في آذار (مارس) المقبل طبقاً لتصريح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. السيسي الذي يظل طوق نجاة لقطاع عريض من المصريين، ومصدر توجس لحقوقيين وناشطين، ومنبع قلق لقوى دولية وأخرى إقليمية، ومنبت تربص لمعارضين ومنتقدين، ومصب عداوة وخصومة ل «الإخوان» وقطاع عريض من السلفيين فرض تغييراً في التكتيك، وتعديلاً في التكنيك، واستعداداً في الكواليس، وإعادة نظر في مطابخ صنع القرارات ومجالس توجيه الانتقادات منذ إعلان موعد إجراء الانتخابات البرلمانية، المحطة الثالثة والأخيرة في خريطة الطريق. الطريق إلى البرلمان حيث شارع القصر العيني متقاطعاً مع شارع مجلس الشعب يقف شاهد عيان كاشفاً ورمزاً واقعياً مؤثراً لما كان وجرى وما هو مقبل ومتوقع. فقد ولت سنوات ما قبل الثورة التي حولت رصيف المجلس «الموقر» إلى «هايد بارك كورنر» مصرية شعبية يهتف عليها المقهورون، ويهلل من فوقها المضغوطون، ويطالب عبرها المظلومون بحقوق سُلِبت وأخرى نُهِبت، وذلك في ظل أذن من طين وأخرى من عجين لممثلي الشعب في الداخل. كما انقضت لحظات فارقة استدعيت فيها قواعد «الإخوان» وأتباع السلفيين وأنصار الجهاديين وما تيسر من متعاطفين ومتحابين ومتآخين مع الحكم الديني لحماية ممثلي «الشعب» في الداخل، حيث يؤذنون أثناء الجلسات، ويطالبون بإلغاء اللغات الأجنبية في مدارس الأطفال، وينددون بتحية العلم في طوابير الصباح، ويكفرون الفصائل الليبرالية من دون استثناء، ويؤكدون على دولة الخلافة القادمة لا محال. واليوم يقف المجلس خاوياً على عروشه، إلا من أفراد للتأمين وقوات للتدعيم وحواجز للإغلاق ولجان للتفتيش، في حين يعج شارع القصر العيني بمارة لا يلتفتون إلى المجلس مقتاً أو حباً، ولا يجترون ذكريات ماض بعيد فاسد أو قريب فاشل، بل يتمنى بعضهم في قرارة نفسه أن يظل الوضع على ما هو عليه، بلا برلمان أو «وجع دماغ». لكن الأدمغة السياسية، الرسمية منها والحزبية، المصرية والإقليمية والدولية، بما في ذلك الجماعات بشُعَبِها الدولية وقواعدها الداخلية، ومعهم الحالمون بالعودة والمتأملون في القفزة والغارقون في العسل، يخطط جميعها لملء المجلس الشاغر بطريقة أو بأخرى. وبين تخطيطات يلحظها القاصي والداني لمحاولات فلولية للعودة، وأخرى دينية للقفزة، وثالثة نخبوية للطفرة، وغيرها من التحركات الملحوظة استعداداً للمحطة الأخيرة في خريطة الطريق، تتجاهل غالبية المصريين الحراك الانتخابي والسباق الانقضاضي والقتال الاستنفاري، سواء مع سبق الإصرار والترصد أو بضغط من العقل الباطن أو تحت وطأة الوضع الراهن. مراهنات عدة تتأرجح بين تأكيد على عودة مموهة لأنصار الدولة الدينية، وتلويح باندساسات مموهة ل «إخوان» أو «أخوات» في تحالفات مدنية، وتنويه بأن الشعب المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، لكن جميعها لا يفسد للتجهيزات البرلمانية والانقضاضات الانتخابية قضية، فمن «عنتيل السنطة» (محافظة الغربية) حيث المقاطع الجنسية المنسوبة إلى أحد قيادات «حزب النور»، إلى «شرفاء الوطني» (الحزب الوطني الديموقراطي المنحل)، إلى «مدنيي الإخوان» وشبهات تسلل وروائح تسرب لشخصيات متعاطفة مع الجماعة أو محبة للشرعية، إلى تحالفات أحزاب أكل عليها الزمان وشرب وأخرى ولدت من رحم الثورة وظلت حبيسة مكاتبها السياسية وهياكلها التنظيمية وانتخاباتها الداخلية، إلى بوادر زيجات رأس مال جديدة يتمنى أصحابها إبرام عقودها مع السلطة، يتابع المصريون بكثير من الفهم وقليل من القلق المشهد المتشابك. تشابك الخريطة السياسية -التي تظل خيوطها في واد والشعب في واد- لا يشغل حيزاً مذكوراً لدى المواطن المصري العادي المغموس من فجره إلى ليله في تشابك من نوع آخر، فيومه متخم بانشغالات لقمة العيش، وغول الأسعار، وشلل المرور، وحوادث الطريق، وتحلل البنية التحتية، ومجابهة القنابل البدائية الصنع، ومواجهة السيارات السابقة التفخيخ، ويعود إلى بيته ليلاً -إن كُتبت له السلامة- ليحظى بسويعات من المشاهدة التلفزيونية المقتضبة ل «توك شو» يصول ويجول في شؤون البرلمان، وأخرى مطولة لفيلم عربي قديم أو برنامج مسابقات سخيف. لكن الحيز كله أو معظمه لدى آخرين مشغول ببرلمان مصر المقبل، حيث استعدادات حقوقية للمراقبة على أمل أن تكون هناك خروقات أو على الأقل انتهاكات، وتجهيزات دولية لإعادة ترسيم الخريطة المصرية في ضوء النتائج المحتملة، وتعديلات إقليمية لدعم طرف عائد أو مساعدة جماعة خارت أو مساندة مجموعة استمرت، وتحركات سياسية لعمل تحالفات هنا وتربيطات هناك ومواءمات هنا وهناك، أملاً في القضمة الأكبر من كعكة البرلمان، وتحركات موازية لتنشيط تصنيع عبوات بدائية وتفخيخ سيارات وإضرام حرائق وتفعيل أعمال لجان إلكترونية هرمت وقواعد «إخوانية» ثارت. إنها ملامح معركة مصر المقبلة.