يتصاعد صوت دقات عقرب الدقائق، ومعه الثواني، تكاد تتطابق ودقات القنابل الموقوتة المؤذنة بانفجارات وشيكة، بعضها معنوي وبعضها تفجيري تفخيخي دموي. هدوء مشوب بالقلق، وترقب مختلط بالتوجس، وفرحة ملطخة ببقايا التكفير ومخلفات التزندق. أصوات «البُمب» (الألعاب النارية) بدأت صباحاً على استحياء من عدد محدود من الشرفات «القبطية» سرعان ما تبعها تواتر أعلى وتنافس أسخن من شرفات الجيران من المسلمين حيث أجبر الصغار الكبار على اعتناق مبدأ «العيد فرحة»، أي عيد، وكل الفرحة. فرحة الأقباط ببث احتفال الكاتدرائية المرقسية ليل أول من أمس على كل القنوات المصرية، الأرضية منها والفضائية، الرسمية منها والخاصة، لم تنافسه سوى فرحة بقية المصريين ببوادر عودة إلى زمن مصر البهية وملامح الدولة العتية على رغم أنف الجماعة «الإرهابية» وحلفائها من المجموعات التكفيرية والقوى الإقليمية والمصالح الدولية. الدولة التي تتسع للجميع عادت تطل برأسها إطلالة رمزية ولكن قوية، في ظل احتفالات أقباط مصر بعيد الميلاد، وهي الإطلالة التي التقطها الجميع وفهمها الكل، الصالح منه والطالح، المصري منه و «الإخواني»، الوطني منه والمحب والمتعاطف والمتضامن مع الشرعية. شرعية السيسي التي جلجلت في أرجاء الكاتدرائية ليل أول من أمس فأمعنت في حلحلة وضع الجماعة وأفرطت في زغللة أعين التنظيم، ما استدعى إعادة رسم التخطيط والإمعان في محاولات هدم المعبد، إن لم يكن بالتفخيخ والتفجير، وبالإغلاق وقطع الطريق، وبالتظاهر والتنديد وحشد الحرائر والتضحية بعماد الثورة «الإخوانية»، فبالبحث عن إبرة الشرعية في كومة قش الشعبية. البيان الرقم 162 الصادر عن «تحالف دعم الشرعية ورفض الانقلاب» دعا «جموع الشعب المصري إلى الاحتشاد بقوة (اليوم) في مليونية مهيبة لم يسبق لها مثيل تحت عنوان الشعب يدافع عن رئيسه لرفض مهزلة القرن». مهزلة القرن تتمثل في اعتقاد كوادر جماعة بأن في إمكان قواعد تنظيم وحرائر أخوات الوقوف في وجه دولة ذات حدود وسيادة وتاريخ، وأمام شعب ذي ثقافة وإن تشوهت، وحضارة وإن تعثرت، وعقيدة وإن شاهت، تعبر عن نفسها اليوم في استئناف محاكمة الدكتور محمد مرسي وآخرين في قضية قتل المتظاهرين في أحداث الاتحادية. أحداث الاتحادية لم تقصر الطريق فقط أمام المصريين للفظ للجماعة ورفض الشعب للتنظيم، بل ساهمت في إفاقة الجميع من غفلته وإيقاظ الكل من غيبوبته، حيث تحريم التهنئة وتبادل السلام وتفاعل مشاعر الجيرة والصداقة والمودة لمصلحة التكفير ومن أجل التصعيد. التصعيد «السلمي» الذي طالب به تحالف «الإخوان» في بيانه الرقم 162، عبر مطالبة «الشعب الثائر البطل» و «الثوار والثائرات» و «الأحرار والحرائر» بمواصلة «أيام الغضب السلمي» والحضور في مكان المحاكمة حضوراً «سلمياً» وانتفاض أحرار الخارج انتفاضاً «سلمياً» وتواصل المقاومة «السلمية» في الداخل والاحتشاد «السلمي» في كل مكان والمقاطعة «السلمية» للوثيقة السوداء (مشروع الدستور) والانتظار «السلمي» لما هو آت، قابلته إجراءات أمنية غير مسبوقة وتفعيلات تأمينية غير معهودة واستعدادات للمجابهة غير معروفة وتوجسات شعبية باتت معتادة وتخوفات أهلية أصبحت مألوفة، تأميناً للكنائس واحتفالات أقباط مصر بعيد الميلاد الذي يعرف الجميع إن «سلمية» الإخوان وحلفائهم لها بالمرصاد. المرصد الشعبي الفطري المراقب للتصفيق والمحلل للتهليل رصد بدقة متناهية التصفيق الحاد الذي دوى في أرجاء القاعة الرئيسة في الكاتدرائية المرقسية ما أن وجَّه البابا تواضروس الثاني تحية إلى وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي لتهنئته بالعيد. صور رفعت وأعلام لوحت ومشاعر تفجرت من غير تحضير مسبق أو تجهيز معلن أو تخطيط مدبر. لكن التحضير المسبق والتجهيز المعلن والتخطيط المدبر، حيث لا مجال للمشاعر الفطرية والأحاسيس الشعبية والإعمالات العقلية والأولويات الوطنية، تصب في قنوات الجماعة وتحركات القواعد من عماد الثورة والحرائر، حيث التجهيز «لما هو آت» من استفتاء على مشروع دستور يضع الرتوش النهائية على وأد الجماعة الإرهابية والتعلق بحبال الأمل المتآكلة، حيث هلاوس سمعية ووساوس مرئية وسفاسف فكرية تندرج تحت شعار «اللهم بلغنا 25 يناير» أملاً في استعادة قبضة «إخوانية» على رقاب المصريين. المصريون الذين أصابهم الوجوم وتملكهم السكوت وجلسوا وعلى رؤوسهم الطير قبل أقل من عام في الكاتدرائية نفسها وفي القاعة نفسها وفي قائمة شكر شبيهة في عيد القيامة السابق، حين وقف البابا تواضروس الثاني موجهاً التحية المهذبة إلى «رئيس الجمهورية محمد مرسي، الذي هاتفنا» و «رئيس الوزراء هشام قنديل الذي أرسل مبعوثاً» و «رئيس مجلس الشورى أحمد فهمي الذي أوفد مندوباً» والوزير فلان الذي بعث برسالة والمسؤول علان الذي أبرق برقية فلم تتحرك ساكنة للجالسين أو تَطْرَف عينٌ للموجودين أو يخالج شعور القلوب، لكن ما أن تفوه البابا بكلمة الشكر لشيخ الأزهر أحمد الطيب حتى عاد الجميع للحياة وصفق الكل تصفيقاً انتقامياً من حكم أقصى الجميع وتنظيم صارع الزمن في التمكين وسارع الخطى نحو تغيير هوية الدولة وتقنيط المواطنين «إخواناً» وغير «إخوان». المواطنون من غير «الإخوان»، الذين ضاعفوا جهود التهاني وزودوا اتصالات الأماني بعيد ميلاد سعيد للجميع، اتبعوا مبدأ «التهنئة الانتقامية»، لكنه انتقام غير ذلك الذي تعرفه الجماعة، فهم هنأوا بعضهم بعضاً انتقاماً من تفسير خاطئ للشرع، ورددوا «كل سنة وكلنا طيبون» انتقاماً من تصنيف عنصري للشعب، وهتفوا «يارب العيد القادم مصر من غير الإرهابية» (وذلك بعد ما تم تغيير اسم الدلع للجماعة من «المحظورة» قبل الثورة إلى «الإرهابية» بعد الثورة) انتقاماً من رغبة عارمة في إسقاط الدولة المدنية من أجل خلافة دينية. وسيظل التاريخ يتذكر أنه بعد الثورة التي اندلعت طلباً ل «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» لكل المصريين، أتى نظام ديني طائفي إقصائي اتخذ من كادر مقرب للجماعة وهو الناطق باسم الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور محمد الصاوي ممثلاً عن الكنيسة في لجنة كتابة الدستور «الإخواني». وفي غمار الفرحة بملامح عودة مصر البهية، اجتر بعضهم ذكريات الماضي «الإخواني» على سبيل الدعابة والعبرة في آن، موجهاً التهنئة بالعيد إلى كل المصريين، «لا سيما محمد الصاوي والأقباط». وتستمر أصوات الدقات في التصاعد مع جلسة محاكمة مرسي اليوم واقتراب موعد الاستفتاء على الدستور وبعده الذكرى الثالثة للثورة، التي يتضرع «الإخوان» إلى الله بأن يبلغهم ذكراها بعد تغيير شعارها ب «ستايل» إخواني «اللهم بلغنا يناير عيش كرامة شرعية عدالة اجتماعية». وتتداخل الدقات وتتصارع، بعضها دقاً على ال «يوتيوب» استرجاعاً لتهديدات «الإخوان» السلمية من قلب «رابعة العزة»، حيث «تفجير مصر» وتفخيخ الكنائس وزرع القنابل، وأخرى بحثاً عن لجان الاستفتاء المرتقب وثالثة لإبطال مفعول القنابل السلمية ووقف تفخيخ سيارات الشرعية وإفشال محاولات مشوهي الشريعة وإعادة تأهيل مخطوفي الذهن مسلوبي الفكر في خضم تدافع الدقات.