«الجمال لم يعد رفاهية» شعار اطلقه مصرف لبناني قبل نحو ثلاث سنوات، للترويج لخدمة «خاصة» لم يشهدها سوق المصارف سابقاً ولاقت إقبالاً لافتاً بين المستهلكين. هي خدمة القروض المصرفية التي سهّلت على كثيرين الغرف من وعاء الجمال من دون التوقف عند حاجز الصعوبات المادية. بهذا المعنى دخل الجمال في منظومة ثلاثية الأبعاد تلبي رغبات السوق اللبنانية اللاهثة وراء الكمال، أقله بالمفهوم الاستهلاكي: اختصاصيون يقدمون عمليات التجميل كسلعة أو خدمة، يموّلها المصرفيون بفائدة متدنية نسبياً، ويسوّقها المعلنون، ثم يستهلكها الطامحون «للوك» أجمل يكسر طبيعة غير مرغوب فيها. إذن، أتاح انخراط القطاع المصرفي في «صناعة الجمال» توسيع دائرة المنتسبين الى «نادي الجميلين»، الذين تزداد أعدادهم أسبوعياً، إن لم نقل يومياً. ليس في التعبير الأخير سوى إضاءة على خلل يرى بعضهم أنه ناتج من سياسة التفلّت الجمالي، اللاغية لكل «بصمات» الطبيعة. في قضية التجميل، هناك حزبان: حزب «مع»، وحزب «ضد». وفي كل حزب تجد المعتدل و «المتطرف»، ولائحة مبررات الاعتدال والتطرف تطول... ولا تنتهي. في السنوات الخمس الأخيرة تحوّل لبنان الى مركز استقطاب مهم في العالم العربي للجراحات التجميلية برقم لافت بلغ أكثر من 18,500 الف عملية تجميلية سنوياً، أي بمعدل 35 في المئة من مجموع العمليات الجراحية التي تستقبلها المستشفيات اللبنانية، فيما ساهمت جراحات التجميل بنحو 15 في المئة من مجموع الإنفاق السياحي في لبنان. وبحسب إحصاءات «المؤسسة الدولية للجراحة التجميلية» (International Aesthetic Plastic Surgery) يحتل لبنان المركز ال24 في عمليات التجميل في العالم نسبة الى عدد سكانه وهي نسبة غير قليلة. الأرقام بالغة التعبير وقراءتها تختلف في شكل جذري بين «الحزبين». الفريق المؤيد لعمليات التجميل يرى فيها «نعمة» صنعتها يد البشر. والتبريرات حاضرة لتفسير «هوس» الاستسلام للآلات الجراحية و «لتفنّن» طبيب التجميل، ومعظمها يتمحور حول سؤال: لماذا يكون الجمال حكراً على النجوم والمشاهير والأثرياء فقط؟ الفريق المعارض يملك أيضاً من المبررات ما يدعم وجهة نظره. الفتيات اللبنانيات أصبحن نسخة «طبق الأصل» عن بعضهن بعضاً، وتحوّلن الى رهينة ل «الجنّة» الإعلامية والإعلانية المتقنة سحر الإغواء وجرّ الضحية الى «الفخ». قبل أيام عرضت شبكة «سي ان ان» تقريراً عن صناعة التجميل في لبنان أكدت فيه أن هذه الصناعة بقيت بمنأى عن الأزمة المالية العالمية، والهزة التي ضربت الاقتصاد العالمي لم تزعزع رغبة اللبنانيات في التشبه بالنجمات وجميلات العالم، حتى لو اقتضى الأمر الاستدانة من المصارف والمساهمة في «إنعاش» القطاع المصرفي عبر خدمة قروض التجميل. أشار التقرير أيضاً الى أن أعداد الراغبات في الاستدانة لم يتراجع خلال الأشهر الماضية. الأهم أن زبونات ال «لوك» الجديد أصبحن يطالبن بإجراء أكثر من عملية... في جلسة واحدة، والهدف ضرب عصفورين بحجر واحد: جمال قياسي وتوفير على الجيب. لكن ما لم يشر اليه التقرير تفضحه العين المجردة وكاميرات المصورين في الحفلات الصاخبة وسهرات المجتمع المخملي وحتى في ملامح نساء الطبقات الوسطى والفقيرة اللواتي اتجهن الى تحسين الشكل، على أولويات حياتية أخرى، مع ضريبة مضافة تكمن في عبء ديون التجميل المتراكمة. نتحدث هنا عن أكثرية ساحقة من اللبنانيات، من طالبات الجامعات الى ربات البيوت مروراً بسيدات المجتمع والموظفات، ممن انتقلت اليهن عدوى التجميل السريع في مواجهة أقلية ترفض ببساطة تحوّل المرأة الى ضحية ل «ديكتاتورية» الشكل. وثمة في لبنان من أراد تسجيل موقف يتصدى ل «هوس» المظهر الخارجي غير المبرر أحياناً. صرخة أطلقتها غوين أبو جودة (26 عاماً) التي أنشأت، بمبادرة شخصية منها، موقعاً الكترونياً بعنوان «أنا ديفا» (www.anadiva.com) للتصدي لظاهرة «بلاستيك ليديز» أو السيدات البلاستيكيات التي تجتاح المجتمع اللبناني، وتحوّل فتياته وسيداته الى «نسخ» متشابهة تنزع عنهنّ أي تمايز. لا تسعى غوين إلى إعلان الحرب على صناعة التجميل بل هو مجرد لفت النظر الى حقيقة لم يعد بالإمكان تجاوزها وهي التغيير المنهجي لهوية المرأة في شكلها الخارجي. وتؤكد غوين «أن المرأة باتت أسيرة لإغراءات الإعلام والإعلان وهذا ما يدفعها الى القيام بعمليات تجميل الى حد المبالغة وتخطي المقبول». وصاحبة موقع «أنا ديفا» التي تقيم حالياً في لندن حيت تكمّل شهادة الماجيستير في التصميم تقول ل «الحياة»: «الغرب ينظر الى اللبنانيات أحياناً باعتبارهن سطحيات بسبب تغليبهن الشكل الخارجي على كل الأمور الأخرى. وهذا ما أتبناه أنا أيضاً. لست ضد التجميل بالمطلق، لكن لا أؤيد التأثيرات السلبية لعالم الصورة المغري على المرأة. «أنا ديفا» ليس مشروع تسلية، بل يكمن في ايصال رسالة أساسية وهي أن المرأة باستطاعتها أن تكون جميلة كلما حافظت على ملامحها الطبيعية، وقريباً سيتم التحضير لصدور مجلة ستشكّل علامة فارقة وسط «أسطول» مجلات التجميل التي تروّج للمرأة بصورتها المثالية، عبر الاستعانة بتقنية «الفوتوشوب». ولذلك ستكون في الأسواق مجلة لصاحبات الجمال الطبيعي، تسلّط الضوء على الطرق التي تساهم في الحفاظ على هذا النوع من الجمال الذي بات عملة نادرة في بلادنا». شركاء غوين في مشروع «أنا ديفا» هم كل المشاركين في الحوارات على الموقع الالكتروني، حيث تتعدد الأراء من مسألة الجمال الاصطناعي ومن تأثيراته المفترضة على شكل المرأة وعلى ثقتها بنفسها. غالبية هؤلاء يلتقون عند اعتبار أن هناك شريحة «صامتة» من اللبنانيات يستفزها الوضع «الشاذ» لمفهوم الجمال حالياً، ولكنها لا تجد سوى صالونات الثرثرة للتنفيس و «فشّ الخلق». وقبل أن تُقدم غوين على تصميم الموقع، أجرت تحقيقاً حول عمليات التجميل أذهلتها نتائجه اذ بدت المرأة رهينة لأيادي التجميل «وتفاجأت بأن الأكثرية الساحقة من الأطباء ضد عمليات «تنفيخ الوجه» المشوّهة للملامح، وبعضهم لا يقبل بإجراء عمليات غير مقتنع بها وبعضهم الآخر يفضّل الاستفادة المادية طالما أن الزبونة ستذهب عند غيره في حال رفضه». وترى غوين «أن الموقع فسح المجال لمشاركة الكثيرين في التعبير عن أرائهم من هذه القضية الاجتماعية التي باتت تمسّ بشكل مباشر هوية المرأة ومكانتها في المجتمع اللبناني». تضحك غوين قائلة: «الفتاة التي لم تجر أي عملية جراحية باتت تعتبر اليوم دقة قديمة!». ونسأل غوين: «هل ستجرين عندما تتقدمين في العمر أي عملية تجميلية؟»، ترد بالقول: «لا مانع! لكني بالتأكيد لن أتحوّل بطريقة يصعب معها على أصدقائي التعرّف اليّ!».