قصتها، والتداعيات التي تصاحبها، تعيد إثارة أسئلة أساسية، بل تأسيسية، حول عالمنا كما انتهينا إليه. تلك الاستعراضية الدائمة الممزوجة بحسابات انتهازية دائمة، وبينها اضمحلال أو ذوبان كل ضابط أو مرجع راسخ، مبدئي وقيمي، وتَحوّل السياسة إلى ميدان للمهاترات فقط. وهو ما يستدعي الحزن الطافح وذلك الشعور المكين باللاجدوى الذي يدفع كل يوم أعداداً متزايدة من الناس إلى التخلي عن الشأن العام. القصة جرت في فرنسا، وما زالت تتفاعل، لكنها تشبه في المعاني التي تحملها سرديات أخرى في كل مكان، بما في ذلك بلداننا. لذلك، ليس الحدث هو المهم هنا، لا تفاصيله ولا نتائجه المحتملة، بل مقدار ما يصلح ككاشف للهندسة السياسية - الاجتماعية السائدة. وعلى ذلك، إليكم قصة ليوناردا. تفتقد الصبية ذات الخمسة عشر ربيعاً المَلاحة. تنتمي هيئتها «أكثر مما ينبغي» لأصولها الغجرية، مع سوء طالع يجعلها من ذلك القسم من الناس الذي حُرم الجمال. لعله سن المراهقة الذي يملأ وجوه أبنائه بالبثور... وهذا على أية حال استطراد لا يهم. فلا هو ولا ملابسها المزركشة، البعيدة من الموضة كما هي متبعة لدى أبناء جيلها، والمطابقة لما ارتدته أمها وجداتها، تحول دون إثارة تعاطف زملائها التلامذة معها وخروجهم الأسبوع المنقضي بتظاهرات كبيرة مطالبين بعودتها إلى فرنسا وباستقالة وزير الداخلية الذي يُسمّى في تلك البلاد - وفق منصبه - «الشرطي الأول»، وهو ما يليق بمانويل فالس، الوزير الشاب الحاد القسمات والطباع والحركة، الذي تمتاز تصريحاته بالفظاظة، ويبدو أن اللقب يعجبه، بدليل إكثاره من القرارات القمعية على كل الجبهات التي تخصه، وارتدائه راضياً مختاراً (وهو ابن مهاجرين إسبان مولود في برشلونة) جلباب التشدد وتطبيق «القانون» حرفياً. خاطبه أخيراً، وبمناسبة قصة ليوناردا تلك، كلود بارتولون رئيس مجلس النواب، والمنتمي مثله إلى الحزب الاشتراكي، بأنْ: «هناك القانون، ولكن هناك أيضاً القيم التي لا يمكن اليسار تجاوزها، وإلا فقد روحه»، ودعا رئيس «حزب اليسار» السيد ميلانشون، الذي يجيد الصخب واجتذاب الإعلام، إلى «إعادة فالس إلى لوبن» أي الحزب اليميني المتطرف، مضيفاً، في إحدى الصياغات التي يوفَّق عادة بها فتصبح شعارات: «العار هو اليوم»... وهو ما رد عليه المعني بتأكيد انتمائه إلى اليسار! وهو في هذا يلعبها جيداً، إذ يسرح ويمرح فوق موجة «معاداة الأغراب» والخوف منهم وتحميلهم مسؤولية تردي الأوضاع المعيشية والأمنية في فرنسا، وهي الموجة التي أسسها ورسخها اليمين، ووصلت إلى مستوياتها العليا خلال حقبة ساركوزي، حين كان رئيساً للجمهورية وقبل ذلك وزيراً للداخلية. مانويل فالس يساري يطبق سياسات اليمين: so what؟ هو يعرف أنه بذلك يحوز شعبية أو يغرف مما بناه سواه. ثم يضاف إلى ذلك أنه يمثل الفتى الصارم مقابل الرئيس هولاند الذي يشتهر بالرخاوة، على رغم محاولاته التخلص من هذه الصفة التي لازمت صعوده الانتخابي. ولفالس طموحات رئاسية، تعززها الأزمة الطاحنة في الحزب الاشتراكي الذي يفتقد تماماً الوجوه الكاريزمية بمقدار افتقاده برنامجاً لا يقوم على الترقيع والخبط العشوائي، ويعززها التوظيف غير المنقطع ل «خطر صعود اليمين المتطرف» المضطرد، وآخر حلقاته فوز مرشح حزب الجبهة الوطنية في الانتخابات الجهوية الفئوية لناحية برينول في الأسبوع ذاته لقصة ليوناردا تلك. مارين لوبن الرئيسة الحالية للحزب، نفضته وخلّصته من شوائب نافلة، وتنوي ملاحقة من يَسمه باليمين أو التطرف قضائياً. بل هو «وطني» والسلام، ما يزيد خلط الأوراق. وبسبب أزمة اليسار العميقة، والأزمة الأخرى الفادحة في صفوف اليمين التقليدي، حيث يتناهش قادته ما يقارب الانشقاقات، يتربع منتعشاً حزب الجبهة الوطنية الذي يرى أطروحاته متبناة من على كل جهاته، فيعود للتذكير بأطروحته الشهيرة: لماذا اتباع المقلد فيما الأصل متوافر؟ وهو بالتأكيد أشد تماسكاً وانسجاماً حول خطاب متكامل، يناهض «النظام» والعولمة... بينما تقترب مواعيد الاستحقاقات الانتخابية العامة والمتعددة في 2014. هي السياسة إذاً، من منظور مختزل بشدة: الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها. وبخلاف ما يُظن، ذلك لا يكفي، والواقع سرعان ما يقاومه حين تقع النقطة التي تُطفِح الكأس أو القشة التي تقصم إلخ... قصة ليوناردا الحزينة هي من هذا القبيل. مسّت عصباً ما زال حياً على رغم كل ذلك الاشتغال. وأثارت التعاطف العام. وهي في الوقت ذاته حيث تكشف بؤس المشهد برمته، وإدقاعه، تكشف أيضاً الأمزجة الخاصة بكل مكان. هنا ليوناردا ليست متسولة تجوب الشوارع كعادة الكثيرين من أبناء بيئتها. بل هي ترتاد المدرسة وقد وصلت إلى صفوف المرحلة المتوسطة. وليوناردا أنزلها البوليس من باص مدرسي، أثناء رحلة تعليمية برفقة زملائها وأساتذتها، وأمسك شرطي بيدها وجرّها على رغم بكائها قائلاً لها: «لا وقت»، مصطحباً إياها إلى حيث وضعت فوراً مع والدتها وإخوتها الخمسة في طائرة إلى كوسوفو. تقاطر الإعلام إلى المنزل الموضوع من قبل بلدية المدينة بتصرف العائلة الطارئة. إعلام من كل أوروبا، ما أحال الحادث إلى فضيحة. تقول السلطات في كوسوفو إن أفراد العائلة، خلا الأب، ليسوا كوسوفيين، بل إيطاليون، ويؤكد الأب الرواية، قائلاً إنه أحرق جوازات سفرهم الإيطالية، حيث يتبعون جنسية أمهم، لأنه ظن أن بإمكانه الحصول على لجوء في فرنسا. القصة البائسة تكشف مأزق المعالجة الأمنية لموضوع الهجرة وحركة انتقال البشر، كما مأزق ترحيل كل المشكلات إلى ظهر المهاجرين. لم يمض أكثر من أيام على الانفعال الذي أثاره غرق مركب الأفارقة، وجلهم من الإريتريين، قبالة شواطئ جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، حيث قضى ما يقرب من أربعمئة إنسان، حتى كانت قصة ليوناردا، وهي بالطبع أقل مأسوية بما لا يقاس، لكنها تعيد طرح موضوع التعامل مع الهجرة، وموضوع القانون في مواجهة الحق بمعناه الإنساني. تقول السلطات الفرنسية المحرجة إنها ستتراجع لو ظهرت «أخطاء إجرائية» عند الفحص السريع للملف، ما يحيل موضوع ليوناردا وعائلتها إلى مجال صراعات القوى وتوازناتها، بما فيها التحركات الضاغطة. بل يقال إن «عودة» ليوناردا إلى فرنسا تعني استقالة وزير الداخلية القوي والصاعد... يا لهشاشة مشهد سياسي كهذا!