كتب عبدالواحد الأنصاري يوم 8-10-2013 مقالة في صحيفة «الحياة» بعنوان: (فتاوى الحج المضيّعة)، وفيه اعترض على التساهل الحاصل في الفتيا في شعائر الحج. وذكر قضية التساهل في المبيت بمنى والرمي قبل الزوال، واستشهد بقصة سمعها من أحد طلبة العلم بأن الرمي قبل الزوال لم يجزه إلا طاووس. الحقيقة أنا أتفق مع الكاتب في بعض ما ذهب إليه، لأن فريضة الحج مرهونة بالاستطاعة البدنية، لأنه تعالى فرض الحج على المستطيع من عباده كما في قوله: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). أي أنه طالما نوى وخرج إلى الحج فعليه أن يتحمل مشقة الشعائر تعظيما لها، لقوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ). ولكن في الوقت نفسه ربما أختلف معه في قضية التيسير على الناس، وبخاصة أن أعداد المسلمين هذه الأيام تضاعف ملايين المرات عما كانوا عليه أيام الرسول. المسألة المهمة التي أختلف مع الكاتب فيها أن فتيا الرمي قبل الزوال لم يكن ليؤخذ بها أخيراً لولا تكرار حوادث تساقط الحجيج ووفاتهم بالمئات خلال الأعوام الماضية، وهي من الأمور التي تشق على المسلمين في أدائها عدم الرمي قبل الزوال في اليوم ال12، لأنه يمثل ذروة إفاضة الحجاج إلى البيت الحرام، فيقع فيه من المهالك والمشقة ما يمثل حقيقة الحرج الذي يؤذي الحجاج، بل ويوقعهم في التهلكة. ورأسها القتل والدهس والإعاقة وكشف عورات النساء، وقسّ على ذلك الكثير. والله عز وجل يقول: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة). وهذا كله من أصول مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ نفس المسلم. قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من قتل مؤمن». ناهيك عن فعله وأمره في حفظ هذا المقصد العظيم في شعائر الحج، وأن حرمة دم المسلم لا يستهان بها كأولوية تسبق أداء شعائر الحج، ومقدمة على ترتيبها بحسب السنن لمن يشق عليه ذلك دفعاً للوقوع في التهلكة. فالنبي مع أن الحجيج، آنذاك لم يكن عددهم يتجاوز بضعة آلاف، فقد كان يسعى جاهدا للتخفيف عن المسلمين، ولم يكن يشق عليهم. وما سأله أحد من الصحابة سؤالاً يستفتيه فيه، إلا وقال: «افعل ولا حرج». وكيف لا وقد قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم). أما القول بأن فتيا الرمي قبل الزوال لم ترد إلا عند طاووس، فربما هذا أمر يحتاج إلى تفصيل. فقد قال تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه). فالمراد بالتعجل هنا انصراف الحاج من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق، وهو اليوم ال12 من ذي الحجة، وذلك بعد رميه جمار ذلك اليوم. في الأصل أن وقت الرمي في أيام التشريق بعد زوال الشمس، كما ثبت في الحديث عن ابن عمر وجابر وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، وهو قول أغلب الأئمة. ولكن في مقابل ذلك فقد رخص الحنفية الرمي قبل الزوال، وإن اختلفوا في النفر بعده. وهذا رأي عطاء، وابن إسحاق وغيرهما. ورخّص عكرمة في ذلك أيضاً. قال طاووس: «يرمي قبل الزوال وينفر قبله». استدل أبو حنيفة وعطاء وطاووس بأن رمي الرسول بعد الزوال يُحمل على السنية والندب، إذ لا دلالة للفعل المجرد على الوجوب، إضافة إلى أن في ذلك رفعاً للحرج وللتيسير على الناس، واستدلوا كذلك بالقياس على الرمي في يوم النحر بجامع أن كل هذه الأيام الأربعة يوم نحر ورمي في الجملة. ومن جانب آخر، فإنه لا يوجد نص صريح على منع الرمي فيها قبل الزوال، ومن المعلوم أن الواجب لا يثبت إلا بدليل صريح، بل يؤكد هذا المعنى الأدلة السابقة. كما استند بعض الحنابلة إلى إجازة ابن الجوزي الرمي قبل الزوال. قال الزركشي في شرحه على «مختصر الخرَقي»: «والرواية الثانية إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال أجزأه، ولا ينفر إلاَّ بعد الزوال. (والثالثة) كالثانية إلا أنه إن نفر قبل الزوال لا شيء عليه، قال في رواية ابن منصور: «إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول ثم كأنه لم ير عليه دما». قال الكاساني: «ولأن له أن ينفر قبل الرمي، ويترك الرمي في هذا اليوم رأساً. فإذا جاز له ترك الرمي أصلاً، فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى». وممن ذهب إلى جواز الرمي قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة إمام الحرمين والحاكم أبو الفتح الأرعيناني صاحب الفتاوى. كما ذكره الشاشي والرافعي واعتمده الأسنوي، إذ أجازوا الرمي من الفجر. وعبر الشرواني عن هذا القول بأنه: «من قبيل مقابل الأصح، لا الصحيح». ومن المعروف أن مقابل الأصح هو الصحيح، وفي مقابل الصحيح الضعيف، وهذا يعني أن هذا القول ليس ضعيفاً. وروى الفاكهي في «أخبار مكة» بسند صحيح عن ابن الزبير أنه يرى جواز الرمي قبل الزوال في أيام التشريق. وممن أفتى بالرمي قبل الزوال من علماء المملكة الشيخ ابن جبرين، فقد قال: إنه روي عن الإمام أحمد جواز الرمي قبل الزوال يوم النفر، كما ذكره في (المغني) و(الإنصاف) وغيرهما، و لعل ذلك يجوز في هذه الأزمنة لأجل الزحام الشديد الذي قد أودى بحياة بشر كثير». إننا في هذا الأوقات بأمس الحاجة إلى فقه الضروريات، وكيف لا وهو من أصول الفقه؟ فالشرع أجاز للمسلم جمع صلاة الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء في السفر لحاجة المسافر ورفع الحرج عنه، وأجاز للمسلم المسافر الإفطار في نهار رمضان. أفلا يكون رمي الجمرات في ذروة الشدة وتزاحم المسلمين أعظم حرمة في النهي من جمع المسافر للصلاة، والإفطار في نهار رمضان؟ وهو ثابت في التخفيف بإسناد النص والفقه، في قول النبي: «يسروا ولا تعسروا». * باحث في الشؤون الإسلامية.