سنة بعد أخرى، يبدو الرهان على «السيتكوم» في القنوات التلفزيونية المغربية رهاناً جدياً، على رغم السمعة السلبية التي خلفتها أعمال سابقة على بعض الوجوه الفنية المعروفة، والتي زُجّ بها في أعمال ضعيفة، لم يستسغها المشاهد المغربي لسقوطها في الابتذال؛ وهو ما فسره المتتبعون بالاستسهال الذي يطبع إعداد العمل من طرف الشركات المنتجة ولهاثها وراء الربح السريع؛ بتصوير الأعمال في وقت قياسي، وفي ابتعاد تام عن الحرفية اللازمة في كتابة السيناريو وإدارة الممثلين. وعلى رغم هذا الواقع لا تخلو المواسم التلفزيونية من أعمال تشذ عن القاعدة، لتحقيقها إجماعاً حول جودتها واحترامها للذوق العام، وصولاً إلى تتويجها بنسب مشاهدة عالية. هذا العام، حقق سيتكوم «رأس المحاين» (رأسُ المِحن) الذي قدمته القناة التلفزيونية الأولى المغربية في رمضان، نسبة مشاهدة مرتفعة، وفق ما أبرزته حصيلة قياس نسب المشاهدة الأخيرة، والتي بوأته المرتبة الأولى، بنسبة تفوق 26 في المئة من مجموع المشاهدة على القناة. والمسلسل عبارة عن كوميديا، شارك في بطولتها كل من كمال كاظيمي ومجيدة بنكيران وإسماعيل أبو القناطر والبشير واكين وإلهام واعزيز. وهو من كتابة فريق ورشة سيناريو تضم كلاً من: حسن فوطا، بوسرحان الزيتوني وعبد الكبير شداتي، فيما أخرجه هشام جباري. يدور العمل حول قصة عائلتين من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين: الأولى ثرية، والثانية متواضعة؛ تضطرهما الظروف للتعايش تحت سقف بيت واحد. عائلة «سي ياسين» (رجل أعمال) الثرية، التي تعرضت لهزة اقتصادية، أفقدتها أسهمها في البورصة، فوجدت نفسها في وضعية حرجة تضطرها للرجوع الى بيت العائلة القديم الذي سبق وأن أجرته لعائلة «السي بوشعيب» (صاحب فُرن شعبي)، والتي ترفض مغادرته، مُرغمة العائلة الوافدة على اقتسام البيت معها والتعايش وفق نمط حياة جديد. مُنح العمل قيمته التمثيلية من رهانه على نوعين من الشخصيات ذات قدرات في التمثيل: شخصيات كوميدية مألوفة لدى الجمهور الواسع (كمال الكاضيمي، إلهام واعزيز، البشير واكين)، وأخرى أقرب إلى الدراما منها إلى الكوميديا (مجيدة بنكيران، إسماعيل أبو القناطر). هذه التوليفة منحت «رأس المحاين» القدرة على الجمع بين واقعية الدراما، وسحر الكوميديا، وإن كانت الرغبة المهيمنة هي إنتاج المواقف المضحكة تماشياً مع روح السيتكوم. كما تميز العمل بقيمة بصرية وجمالية نجمت عن اختياراته الموفقة للديكور والملابس وتناغم الألوان والأضواء والصوت، والانتقالات الذكية للكاميرا؛ وهو ما لم يُفقد المشاهدة متعتها البصرية، على رغم التكرار اليومي لفضاء التصوير الداخلي (البيت) وهيمنته. في المقابل لا يمكن إغفال بعض المطبات التي وقع فيها العمل، والتي يمكن إجمالها في: أولاً ارتهانه لروح عمل سابق للمخرج نفسه هو «دار الورثة»، و «إشكال البيت» هو المحدد لتطور السرد؛ وهذا ما بدا واضحاً من خلال اختيارات بعض موضوعات الحلقات، وموسيقى الجينيريك. ثانياً: سقوط بعض الممثلين، خصوصاً الجدد منهم، في نوع من الابتذال، لا سيما في محاولات الإضحاك الفجّة. ثالثاً: ارتباكات في سيناريوات بعض الحلقات، والتي يمكن تقويمها على أنها متوسطة إلى ضعيفة. في تطور الأحداث، ينتج فعل التعايش الاضطراري بين العائلتين، والذي تذكيه المفارقات والتباينات في العادات والطباع والتصرفات بين الأسرة الثرية والأخرى البسيطة، مواقف هزلية، تنتقد من جهة، وفي شكل ذكي ممارسة الطبقة الميسورة، الحاملة لبعض القيم السلبية (تكبر، ترفع، اصطناع وازدراء للآخر)، فيما تُمجّد، من جهة ثانية، بساطة القاع المجتمعي (تلقائية، سذاجة، نبل، شهامة)، على رغم المِحن المتعاقبة على رب العائلة، وقلة ذات اليد التي يحيا بها ومن خلالها، ويعيش على إيقاعها؛ والتي يبدو أنها تشكل مِلح حياته. ويبلغ التباين بين العائلتين مداه حين يتعلق الأمر بمحاولة تدبير التعايش اليومي بين الزوجة «الثرية وخادمتها»، وبين زوجة «السي بوشعيب وأخته». الزوجة الثرية ترفض النزول من البرج العاجي الذي وطدت نفسها عليه في حال اليُسر الذي عاشته، فيما ترفض الزوجة البسيطة تصرفاتها، مرغمة إياها على الرضوخ لواقع الحال وتدبير عُشها الزوجي، والمشترك بينهما بما يليق من البساطة اللازمة تجاه الحياة وتبدلاتها. تتطور الأحداث اليومية، درامياً وكوميدياً، حيث تتصادم المواقف تارة، وتتعانق تارة أخرى، في تنام مضطرد نحو التعايش، والتأثير والتأثر ونقل بعض القيم الإيجابية من العائلة البسيطة إلى العائلة الميسورة. وتبرز قيمة التعايش في التكافل بينهما كلما ألمت بأحد «رأسي العائلتين» المِحن، ما يمنح للتسلسل واقعيته ومداه، فضلاً عن التشويق اللازم المسوّغ لاستمرار الحلقات، وذلك تفادياً للوقوع في تكرار ممل أو مواقف فجّة. «رأس المحاين»، سيتكوم راهن على المفارقة الواعية لإنتاج المواقف الكوميدية، إضافة إلى النقد المجتمعي لسلوكات خاصة؛ أثبت تطور الأحداث أنه يمكن تصحيحها بالتعايش الاضطراري كشرط محدّد، وبذلك استحق أن يتوج على رأس قائمة المشاهدة الرمضانية.