يحاول بعض مؤيدي الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يجعل المكالمة الهاتفية القصيرة التي جمعته بمبادرة منه بنظيره الإيراني حسن روحاني، سبقاً عظيماً بمستوى زيارة ريتشارد نيكسون للصين في السبعينات، منهياً قطيعة دامت عقوداً طويلة، أو دعوة رونالد ريغان للزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف لهدم جدار برلين في الثمانينات، مؤشراً بذلك لاستتباب حركة إصلاحية أنهت المنظومة الاشتراكية والحرب الباردة. ويميل بعضهم في الإعلام العربي، تحت شعار الممانعة والمقاومة، إلى اعتبار المكالمة دليل استسلام للولايات المتحدة بعد أن تحطمت مشاريعها التوسعية والعدائية على صخور الصمود والتصدي المتجسدة في طهران وحلفائها في المنطقة. ولا شك أن تلك المكالمة توفر لهؤلاء وأولئك مادة متجانسة مع طروحاتهم الدعائية المتواصلة، في حين تندرج واقعاً في سياق السياسة الثابتة التي يثابر أوباما على انتهاجها، والقاضية بإدارة الأزمات لاحتوائها لا للتوصل إلى حلول لها، مع السعي إلى تثمير خطواتها سياسياً، أي محلياً، قدر الإمكان. حتى في الأوساط القريبة والمؤثرة في صياغة القرار في الحكومة الأميركية، ثمة إدراك يجري التصريح عنه حيناً ويُكتفى بالتلميح إليه أحياناً بأن احتمالات التوصل إلى صيغة توافق تُخرِج الولاياتالمتحدةوإيران من حالة المواجهة القائمة بينهما، تكاد أن تكون معدومة، انطلاقاً من تعارضٍ موضوعي في المصالح والمناهج للطرفين في المنطقة. والمسألة ليست انعدام الثقة بين الجانبين، ولا التخلف المفترض للولايات المتحدة عن التسليم بالمقام المزعوم لإيران في الحضارة والتاريخ وما أشبه، ولا غير ذلك من الشخصنة للعلاقات بين الدول، بل الاصطفاف الثابت في موقعين على طرفي نقيض. فالاعتبارات التي تحكم موقف أميركا في المنطقة هي الأمن والاقتصاد وإسرائيل والديموقراطية، وفق هذا الترتيب، أي أن الولاياتالمتحدة تحتاج إلى مكافحة المنظمات والجهات التي تهدد أمنها الوطني وتنطلق من المنطقة، وتحتاج أيضاً إلى اعتراض محاولات التأثير السلبي في الاقتصاد والاستقرار العالميين من خلال تهديد موارد الطاقة في المنطقة. ويأتي بعد هاتين الحاجتين الموضوعيتين همّان ذاتيان مؤثران في السياسة الأميركية، الأول منهما بما يرتقي عملياً إلى مصاف الحاجة الموضوعية، أي أمن إسرائيل واستقرارها ورفاهها، ثم الديموقراطية وحقوق الإنسان والتنمية لعموم شعوب المنطقة. في مقابل هذه الاعتبارات، فإن حضور الولاياتالمتحدة في المنطقة- بصرف النظر عن آراء رؤسائها المتعاقبين وتوجهاتهم، عائد إلى التداخل الحاصل في قطاعات الطاقة والمال والتسلح والأعمال، بين واشنطن والدول المنسجمة مع الاعتبارات الأميركية للمنطقة. ففي حين وفرت الولاياتالمتحدة في العقود الماضية الغطاء الأمني، بل النشاط الحربي، دفاعاً عن هذه الدول، فإن هذه الدول، ومن خلال العقود المبرمة مع المؤسسات الأميركية ومن خلال توظيف صناديقها السيادية وغيرها من الأدوات، كانت ساهمت في تجنيب الولاياتالمتحدة الكثير من تداعيات التعثر الاقتصادي. فخلافاً للخطاب الإعلامي المتداول في الأوساط الأميركية، والذي يجعل الولاياتالمتحدة جهة معطاء تكاد أن تستنفد طاقتها في فعل الخير، أو ذلك الشائع لدى العديد من الأوساط العربية والذي يصوّرها على أنها طرف جشع يوشك أن يفقد قدرته على فعل الشر، فإن العلاقة، من حيث الاستفادة، تتسم بدرجة عالية من الندية. والخلاف مع إيران ليس أنها غير منسجمة مع هذه الاعتبارات الأميركية فحسب، بل إنها متعارضة معها. فالمنظومة الأمنية التي أنشأتها وتغذيها، في المنطقة وما يتعداها، تورطت في أكثر من حالة بأعمال عدائية تطاول الولاياتالمتحدة أو حلفاءها وساهمت في تمكين مجموعات معادية. والمسعى الإيراني إلى تطوير الطاقة النووية، بما يحيط به من شكوك حول نيات لتطوير سلاح نووي، يشكل تحدياً خطيراً وقطعياً للرؤية الأميركية للأمن في منطقة الشرق الأوسط وخارجها. وعلى رغم جسامة الخلاف في هذه المسألة، فواقع الأمر أن التعارض في الموضوع الأمني، كما الشأن الاقتصادي حيث لا تعارض جوهرياً، قابل للحل، وإن استغرقت تفاصيله الوقت الطويل، لو لم يكن متداخلاً مع الاعتبارين الأخيرين، أي إسرائيل والديموقراطية. ومسألة الديموقراطية وحقوق الإنسان، على رغم الأهمية الخطابية التي تُمنح لها، هي الموضوع الأكثر ليونة. فالولاياتالمتحدة، بما يشبه القاعدة الثابتة، مستعدة لتأجيل الخلاف في هذه المسألة إلى أجل غير محدّد، وعلاقاتها في معظم الدول قائمة على هذا التأجيل أو على الأقل تخفيض مستوى أهمية الموضوع. فموطن التضارب المتأصل يرتبط إذاً بإسرائيل. ثمة مفارقة في هذا الشأن. فالقراءة في أوساط التحليل السياسي في اميركا أن ليس لإيران كدولة ما يدعوها إلى حالة العداء التي تنتهجها إزاء إسرائيل. واقع الأمر أن هذه القراءة لا تقتصر على إيران، بل تتعداها إلى عموم دول المنطقة وشعوبها، بما في ذلك الشعب الفلسطيني، انطلاقاً من أن معالم التسوية اتضحت منذ أعوام، وإن لم تتمكن جهتا الصراع من تفعيلها. في كل الأحوال، الخطاب المعادي لإسرائيل والولاياتالمتحدة أكسب طهران قدرة واسعة على التأثير، إذ ملأ فراغاً خلّفه اندثار الخطابات القومية واليسارية في هذا الصدد، بعد تبيُّن عجز أصحاب هذه الخطابات عن ترجمة الأقوال إلى أفعال، أو افتقادهم العزيمة على ذلك. فلا يسع إيران بالتالي التخلي عن هذا الخطاب وهذه المواقف من دون التفريط بمكاسبها على مستوى المنطقة، بالإضافة طبعاً إلى أن توجهها هذا تولّد عنه ترتيب داخلي لتوزيع السلطة في الجمهورية الإسلامية، من شأنه مقاومة أي اهتزاز قد ينجم عن محاولة تبديله، وليس ثمة ما يمكن الغرب عموماً والولاياتالمتحدة تقديمه للتعويض لإيران ككل عن خسارة كهذه، أو لاحتواء الجهات الإيرانية الداخلية المتضررة من تحول كهذا. بل ثمة إدراك أميركي أن الرئيس حسن روحاني يلتقي مع هذه الجهات المحبذة لاستمرار التوجه العام للخط الإيراني في المنطقة بمقدار كبير، وإن كان يحبذ تبديلاً في الأسلوب. فالأفق، أميركياً، ليس التوافق الأقرب إلى المستحيل، إنما منع تفاقم الأزمة، بانتظار تبدل ما. لا سبَق ولا استسلام إذاً، بل متابعة لنهج النَفَس الطويل، الهادف منه والمماطل.