لتركيا مكانة خاصة في الرؤية المستقبلية للشرق الأوسط والتي تتشكل في واشنطن. وهذه الرؤية ذاتها لا تنفصل عن الترتيب الجديد للسياسة الخارجية الأميركية على مستوى العالم ككل، والقائم على الابتعاد عن تولي دور شرطي الكوكب، بل التخلي عن دور مرجعية الفصل بين النزاعات المختلفة الذي آل إلى الولاياتالمتحدة منذ أكثر من عقدين، أي منذ انهيار المنظومة الاشتراكية وبروز الأحادية القطبية. والترتيب الجديد لا يهدف طبعاً إلى التخلي عن القدرة على التأثير، بل إلى إعادة صياغتها بما يضمن عدم استنفادها للموارد الأميركية. وإذا كان التوجه نحو هذا الترتيب قائماً منذ فترة غير وجيزة، فإن الحكومة السابقة في واشنطن، في عهد الرئيس بوش، قد رجّحت خلافه، حين ارتأت، وإن لاعتبارات وصفها البعض في صفوف تلك الحكومة بالطارئة والضرورية والمرحلية، توسيع نطاق التدخل المباشر في مختلف أنحاء العالم. أما اليوم، فالأوضاع السياسية والاقتصادية على حد سواء تقتضي التبديل من التوسع إلى قدر من الانكماش، من دون أن يكون في هذا الانكماش، مبدئياً على الأقل، تفريط في المصالح الأميركية. ومن هنا أهمية الاعتماد على الحلفاء الموضوعيين، أي الذين ترى واشنطن أنهم، بحكم نظمهم السياسية والاقتصادية، منسجمون على المديين المباشر والبعيد مع تصوراتها ومصالحها. وأوروبا، جملة وفرادى، تبقى الحليف الموضوعي الأول، وإن تضاءلت أهميتها في المرحلة الحالية، تليها عن قرب دول شرق آسيا ذات العلاقة الحيوية بالولاياتالمتحدة (اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان). ويأتي في صف ثانٍ، من حيث ثبات العلاقات، لا من حيث قيمة أهميتها، دول صاعدة اقتصادياً وسياسياً متوافقة في أوضاعها ومصالحها مع الرؤية الأميركية للاستقرار، كل منها نافذة في محيطها، كالهند في آسيا الجنوبية، والبرازيل في أميركا الجنوبية، وأندونيسيا في جنوب شرقي آسيا، وأفريقيا الجنوبية في جنوب قارتها، وتركيا في الشرق الأوسط. والتوافق مع كل من هذه الدول لا يعني بطبيعة الحال التطابق، غير أن القناعة تبقى بأن شراكة كل منها مع الولاياتالمتحدة عامل فائق الأهمية، إن لم يكن العامل الأول، في تشكيلها لسياساتها الخارجية. وما هو خارج هذا التأطير الجديد بما يشكل التحدي الجدي (أي بما يتجاوز مثلاً الإزعاج الذي كانت تشكله فنزويلا قبل وفاة هوغو تشافيز)، يتمثل في الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية. وإذا كانت الصين محيّدة إلى حد ما بفعل الشراكة الاقتصادية، فالتواصل مع روسيا، وإن كان بناء على العديد من الحالات، يبقى عرضة للتقلبات، فيما حال واضح من العداء يطبع العلاقة بإيران، وحاجة ماسة إلى تطويق الخطر تحكم التفاعل مع كوريا الشمالية. وأهمية تركيا، من منظور أميركي، هي أنها في آن واحد قابلة لأن تكون عامل «تفويض» في قدر من الشرق الأوسط متجه نحو الاتساع، أي أنه باستطاعة واشنطن الاعتماد عليها في تنفيذ المبادرات المنسجمة مع المصالح التركية والأميركية على حد سواء، وأن تكون كذلك «قوة فاصلة» إزاء اثنتين من الدول الأربع التي تشكل تحدياً للمصالح الأميركية، أي روسيا وإيران. فعلاقات أنقرة مع كل من طهران وموسكو قائمة ومتينة، وإن اختلط فيها التنسيق بالتنافس في غير ملف. ومن شأنها بالتالي أن تكون مدخلاً أو صمام أمان وفق مقتضى الأحوال. وكون تركيا الحليف الموضوعي الأول للولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد استتب في القراءات الأميركية للمنطقة، والتي رغم حرصها على إسرائيل تدرك بديهياً عزلتها وسلبيات حضورها، ورغم تواصلها المستمر مع دول الخليج تقصر علاقاتها بها بموضوع الأمن النفطي المرشح إلى التراجع مع تحقق مسعى استقلالية الطاقة أميركياً، ورغم إدراكها لضرورة تثبيت الاستقرار في عموم المنطقة لا ترى جدوى في خضم التحولات الحاصلة من انغماس قد يعود بنتائج عكسية. ويمكن نقد هذه القراءات بطبيعة الحال على غير مستوى، ابتداء من الإهدار الخطير للعلاقة مع العراق لاعتبارات سياسية داخلية أميركية، ما ساهم في إضعاف الدولة الناشئة وفي تعريضها لتدخلات منهكة من غير طرف، وأدى إلى خسارة الولاياتالمتحدة ما كان من شأنه أن يكون حليفاً موضوعياً في المنطقة، وصولاً إلى منطوق «التأني»، أي الإهمال، في الموضوع السوري، والعائد كذلك إلى اعتبارات أكثرها مرتبط بالسياسة الداخلية الأميركية، وهو إضافة إلى تفريطه بإمكانية نشوء نظام في دمشق متوائم مع القيم العالمية، يشكل سقطة أخلاقية صريحة للولايات المتحدة. بل يمكن كذلك انتقاد تقصير الولاياتالمتحدة في تجسيد رغبتها في «تفويض» تركيا، وتحديداً في الشأن السوري، من خلال عدم الاستجابة للمطالب التركية لدعم أميركي فعلي لترجمة الحزم الكلامي الذي أظهرته القيادة التركية إلى أفعال على الأرض، ما أدّى إلى إيذاء خطير لصورة تركيا في عموم المنطقة (إضافة طبعاً إلى إطالة عمر المأساة السورية). والواقع إن التفوق التركي على مستوى المنطقة، في مجالات مختلفة، من حيث الاقتصاد والاستقرار السياسي والانجازات، وإن غير المكتملة، باتجاه تحقيق سيادة المواطن، إضافة إلى الطبيعة العقائدية للحزب الحاكم، والقابلة للتوافق مع أكثر من طرف في عموم المنطقة، والسمات الشخصية لقيادات الحزب والدولة، تضع كلها تركيا بالفعل في موقع الصدارة كطرف قادر على التأثير. إلا أن ثمة معوقات لتفعيل هذا الدور. ومع توصل أنقرة إلى تحقيق الخرق في مسألتها الكردية من خلال مبادرة النيروز التي أطلقها عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، من معتقله التركي لإنهاء الأعمال القتالية، يمكن الحديث عن تقدم جدي باتجاه معالجة المعوق الجوهري الأول. ومع النجاح المباغت الذي حققه الرئيس الأميركي باراك أوباما في الاستحصال على (شبه) اعتذار إسرائيلي لحادثة القافلة البحرية التركية، يزول المعوق الأبرز من وجهة نظر الأجواء السياسية في واشنطن. لتركيا اليوم إذاً احتمالات جدية لتفعيل دورها في المنطقة. وربما كانت الحاجة أن يبتدئ هذا التفعيل حيث كان التفريط من كل من واشنطنوأنقرة، وحيث ساهم تفريطهما في اهتراء ما كان من شأنه أن يكون عامل استقرار وقوة في المنطقة، أي في تصحيح العلاقة مع بعداد.