قدمت قناة «الجزيرة للأطفال» أخيراً، وبعد طول انتظار وترقب فيلم «محارم» للمخرج السوري محمد ملص. والمحارم هي المناديل الورقية التي يستخدمها البشر، ويتخلون عنها بعد أول استخدام لها، ونادراً ما يبقون عليها، لأنها صنعت خصيصاً بهدف استهلاكها السريع. الفيلم عموماً لا يخلو من نبرة تلفزيونية (منزلية) ، ربما فرضتها هوية المتلقي، الذين هم على الغالب من الفتيان والمراهقين، وعلى الأقل هكذا تفترض الحبكة الدرامية التي اشتغل عليها ملص بنفسه كتابة وإخراجاً لهذه المحطة المتخصصة، ما يعني أننا نقع على فيلم تفترض معالجته أنه كتب لينفذ برؤية سينمائية رديفة لأعمال ملص السابقة، فبحدود علمنا، لم يسبق لهذا المخرج أن عمل شيئاً للتلفزيون، حتى وإن استخدم تقنيات الفيديو في الكثير من أعماله. لا نعرف ما إذا كان من سوء حظ الفيلم بالتالي أنه عرض في زحمة الموسم التلفزيوني الذي تتسابق فيه الفضائيات العربية لتحظى بالغنيمة الأوفر حظاً لجهة العرض ونسبة المشاهدة ووفرة الإعلانات. وبالتالي فإننا نجزم أن قلة تمكنت من مشاهدته مع وجود هذه (الجحافل) الدرامية، على رغم أنه لا يمتاز بمادة تبعده عن هذا السيل التلفزيوني الجارف سوى قصر مدته (34 دقيقة)، ف «محارم» يجد نفسه متورطاً في انتمائه للفيلم التلفزيوني من دون أن يثبت لنفسه هوية أخرى خاصة. وملص لم يوفر استخدام تقنية الرسوم المتحركة من خلال إصراره على «تنقيل» طير حمام فوق رؤوس أبطاله من دون عذر درامي وجيه. على أية حال يبدو لافتاً في «محارم» أن ملص يوسع هنا من دائرة الشقاء التي يسبغها عادة على أبطاله مستخدماً ذريعة العنف الكامن في النفوس، وهو هنا في «محارم» يعود إلى مادته الأثيرة، اذ يطل من خلال عين مثبتة في الباب على مأساة عائلة جولانية نازحة من قرية بير عجم، وهي مؤلفة من أب وأم (تيسير ادريس وفدوى سليمان) وثلاثة أطفال. وهم يقطنون عشوائيات «عش الورور» القربية من دمشق. وفيما يحلم الأب في هجعته الليلية بسيارة نقل صغيرة من ماركة «سوزوكي»، يمكنها أن تعينه في متابعة عمله اليومي الشاق في بيع جرار الغاز، ويخفق بسبب من محدودية دخله، يفكر أبناؤه ببيع المحارم، ويقومون بحسبة بدائية ساذجة تفترض أن أرباح بيع مليون كيس محارم تكفي لشراء السيارة الموعودة. مشوار يومي يبدأ الأطفال مشوارهم اليومي في العمل بعد الانتهاء من مدارسهم، ويتفرقون في شوارع وأحياء دمشق المختلفة بحثاً عن الرزق الشحيح. ولا ينسى الأب الذي يعاني من وسواس قهري واضح بسبب الفقر (ربما)، التنبيه على أولاده بعدم دخول بيوت الناس تحت أي عذر كان. هذه القطيعة في التواصل بين الناس يركز عليها ملص بمروره على شخصيات فيلمه الأخرى، فزوجة رسام الكاريكاتور المغيب بسبب رسوماته السياسية الناقدة تعيش هي الأخرى وطأة الكابوس نفسه، فهي تحمّل ابنتها الوحيدة وهي تذهب إلى المدرسة، مجموعة من النصائح الثمينة التي تقضي بعدم مخالطة الغرباء مهما كانت الأسباب. ويمتد هذا «العصاب» أيضاً إلى زوجة بائع جرار الغاز التي تحظر على ابنها سليمان الحديث بدوره إلى «الكائنات الغريبة»، وتشكوه إلى أبيه عندما تعلم بمحادثته إبنة الرسام التي تنقل إليه عدوى الرسم، فيقرر أن يصبح رساماً. من الواضح أن ملص يتكئ هنا على أجواء فيلمية سابقة له، ولكن بانفتاح أكبر على قصة تبدو رموزها واقعية أكثر، وكأنها تعيش بيننا. ولكن ما ينقصها هو الدفق العاطفي الذي يبدو مغيباً هنا تماماً، وحتى في اللحظة المهمة التي تتجلى في لقاء سليمان بإبنة الرسام وهي تبكي على أدراج البناية التي تقطن فيها، والتي يصعد إليها في هذه اللحظة، ويجد نفسه مضطراً لفتح الكيس البلاستيكي وتقديم منديل لها لتمسح دموعها. هذه اللحظة تمر من دون الاشتغال على تفاصيلها الموحية، لا بل إن الفتاة ستتلقف المنديل وتمضي في طريقها من دون أن تعبأ به، خصوصاً أن هذا اللقاء هو الذي سيبدل حياته كلها. وهذا ما يدفع بالأم المرتابة بكل شيء من حولها أن تهزه بعنف ليعترف أمامها بهوية من أرسله لمراقبتها مع ابنتها، ما يدفعه للصياح بقوله إنه بائع محارم فقط. هذا اللقاء الذي سيولع الطفل من خلاله بالرسم، وسيدخل على البيت المغطى بالشوادر البلاستيكية في عش الورور (بما يذكر بكيس المحارم وفيلم ملص التونسي غير المكتمل «البحث عن عائدة») مفردة كاريكاتور باللكنة الفرنسية المفخمة، وسيرددها معه أخوه وأخته بالطريقة نفسها، وهي اللحظة التي ستمتد لتصوير الحمامة الزاجلة بطريقة الرسوم المتحركة وهي تقرأ رسالة سليمان للفتاة فيها يبلغها أن أهله سيغادرون العش ليعودوا إلى بير عجم بعد أن يؤجروا البيت للاجئين عراقيين ظهروا في الفيلم بوظيفة مؤدين للمقامات العراقية الشجية، وكأن لا شغل لهم في الفيلم سوى التحسر على العراق وأهله، بل انهم يفشلون في نقل عدوى الغناء للطفل الذي يقرر أن يصبح رساماً. وملص يؤكد على هذا الفشل عندما يسأله جاره العراقي عما إذا كان يريد أن يصبح مغنياً، فينفي هذه الرغبة ويعمل على وأدها في مكانها، وكأنه ينفي بذلك ذريعة وجود العراقي نفسه في الفيلم. «محارم» فرصة مبتورة يقدم عليها ملص، فعالم الأطفال الثري الذي ينشده هنا ظل عصياً على ما يبدو، فلا تكفيه مفردات اللجوء، والفلسطيني التائه، والنازح، وخريطة الجولان المعلقة على الحائط، والجدران البلاستيكة، والكاريكاتور السياسي المضحك، والعشوائيات التي تنهك الأرواح والنفوس. صحيح أن عالم الأطفال كما يخيّل للبعض بسيط ومتاح ومفتوح، ولكن ينبغي أن يظهر كذلك شريطة تصويره كما يفهمه الأطفال أنفسهم، لا كما يفهمه الكبار، فالعنف الكامن في النفوس المريضة مقولة لا تكتمل نبراتها الجازمة هنا، ومن الصعب تصديرها مراراً وتكراراً إلى أطفال سلبت منهم طفولتهم نتيجة أسباب كثيرة. فما من ملامسة عاطفية حارة هنا أو هناك يمكنها أن تؤكد لنا مثلاً ضرورة أن تعيد الطفلة المنديل لسليمان وهو رمز تعلقه بها وبالرسم الذي يبقى له في بير عجم حتى بعد أن تهرس سيارة نقل ضخمة دراجته وحقيبته المدرسية.