وفاة الشاعر والمفكر عبدالوهاب المؤدب صدمة لا أستطيع ردّها. جاءني نعيُه على نحو مفاجئ وبالغ الألم. هو المحبّ للرحيل الدائم، المتشبع بروح المغامرة والجرأة، ينطفئ بسرعة سقوط الشهب. هو الموت، كذلك كان ويكون. وليس لي، وأنا في حالة حداد على الصديق الكبير، سوى أن أتهيأ لمزيد من الوحدة. التقيت عبدالوهاب المؤدب في بداية الثمانينات في الرباط. كان آنذاك مطلعاً على «الثقافة الجديدة» وعلى دواويني وكتاباتي المنشورة في «مواقف» أو في الصحافة المغربية أو مترجمة إلى الفرنسية. وكان عبدالكبير الخطيبي هو المهيئ لهذا اللقاء، من ثم نشأت بيننا صداقة، دلّتنا على طرق التعاون والحوار. وخلال الحياة التي تقاسمناها، تعرّفت إلى شاعر متشبع بالتصوف، عارف بالثقافة الأوروبية، مؤمن بالحرية، مدافع عن التسامح والاختلاف والديموقراطية. وهو، في الوقت نفسه، من العرب الذين اختاروا الإقامة في الغرب، لكنه لم يفرط قط في انتسابه إلى العالم العربي وثقافته، بل أبدع في تبنّي مفهوم البين - بين. كان منذ البداية شغوفاً بالشعر، ومشدوداً إلى الكتابة، وإلى القصيدة بحد ذاتها. ووهبته باريس ما كان يحتاج إليه من إمكانات معرفته بالثقافة العربية - الإسلامية وتعميقها. وفي ضوئها، كانت مغامرته في التأليف والكتابة والدفاع عن إسلام منفتح، متجدد ومبدع، قادر على التفاعل مع العقائد الأخرى ومع العالم الحديث. كثيرة ومتنوعة هي أعماله. كتب إلى جانب الشعر كلاً من الرواية والدراسة الفكرية، وقام بترجمة أعمال شعرية وصوفية عربية، وكتب أيضاً عن مؤلفين عرب قديمين وحديثين. عرف أعمال ابن عربي بطريقة متمكنة ونادرة، كما أنه اعتمدها في صياغة كتاباته مثلما أفاد منها ومن كتابات الحلاج والنفري وأبي زيد البسطامي والسهروردي في بلورة أفكاره. ومن أهم أعماله رواية «الطلسمان» وديوان «قبر ابن عربي» وكتاب «أوهام الإسلام السياسي». إنّ كل واحد من هذه الأعمال يمثّل مرحلة من مراحله الكتابية والفكرية. وقد تآلف على نحو عجيب مع البحث العلمي والنشر والتدريس الجامعي والعمل الإذاعي والكتابة في مواضيع ثقافية، تمس الفنون وقضايا الدين ومجالات الأدب، من دون أي تعارض أو تنافر بينها. وقد ترك ما يقرب من ثلاثين عنواناً، منها ما هو مترجم إلى لغات عدة. ولعلّ أشد ما سيذكره العالم هو الموقف النقدي الذي تميز به في نقد التعصب الديني وتشبثه بالدعوة المستمرة إلى إسلام حديث، يقوم على التسامح والتجاوب مع أفكار العالم، من أجل مستقبل مغاير، يتحرّر فيه «المسلمون» من الحقد والكراهية. وظل عبدالوهاب المؤدب مرتبطاً بتونس، وبثقافته التونسية، مثلما كان شديد التعلق بالمغرب وثقافته وحضارته وقريباً من كتّابه وفنانيه. ومن مواقفه الكبرى، وقوفه إلى جانب الثورة التونسية ودعمها بالكتابة والمشاركة في ندوات ومناقشات عمومية. وكان من آخر ما قام به دعمه لحزب «نداء تونس» الذي أعلنه يوم 5 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في بيان أعطاه عنوان «أنتخب»، ثم أكد موقفه في اليوم التالي بمقالة مفصلة يستعرض فيها أسباب اختياره ويستدعي تجارب مناضلين ومثقفين في العالم. هذه الحياة المفعمة بروح الحرية، والجرأة على التصريح بنقد التزمت الديني والتعصب العقائدي، هي التي تجعل من عبدالوهاب المؤدب أحد كبار الثقافة العربية الحديثة، وأحد المدافعين عنها بالمعرفة والإبداع. رحيل المفكر التونسي عن 68 عاماً.. (الباحث عن ثقافة «كونية»)