يتجدد السؤال حول أخلاقيات المثقفين السعوديين في تعاطيهم الثقافي وتواصلهم في ما بينهم مع كل موجة فكرية أو موقف ومناسبة ثقافية تشعل النقاش وتلهب المنصات الافتراضية بالتداول والتبادل. ويمثل المثقفون السعوديون مشارب متعددة بحسب انتماءاتهم الفكرية والآيديولوجية، إلا أن التيار الإسلامي والصحوي في مقابل التيار الليبرالي والحداثي يعدان أبزر تيارين يتصدران المشهد السعودي ويبتلعان القطاع الأعرض من المثقفين والكتاب الصحافيين وكل من يشتغل على إنتاج ثقافي متواتر. قبل أيام وقع «سجال تويتري» محموم بين المندوب الدائم للسعودية زياد الدريس والباحث الناشر محمد السيف، بدأ السيف السجال بنشر قصاصة أرشيفية من صحيفة «المسلمون الدولية»، التي توقفت عن الصدور عام 1998، تحوي مقالة للدريس بعنوان: «نفي المكيافيلية عن جميع الإسلاميين غباء وتعميمها جريمة»، وكانت رداً على تركي الحمد في شأن الإسلاموية، ويصفه بأنه من الذابلين ذوي الأصابع المطفأة! «لم يسلم نقاش السيف والدريس من تبادل التهم والتراشق بالكلمات وهو ما بعث السؤال المتجدد من مرقده القديم، إلى أي مدى يصل الخلاف بين المثقفين السعوديين؟ وهل يستحضرون في مخيلتهم وأجساد أطروحاتهم الفكرية الأخلاق التقليدية للمثقف المثالي؟ لا تزال الثقافية السعودية تذكر الخلاف الشهير بين الوزير السعودي الراحل غازي القصيبي ورجل الدين المثير سلمان العودة وما اكتسى هذه العلاقة التزاحمية من قيم أخلاقية وملامح ثقافية غاية في النبل والأدب والنزاهة. في البدء قال الصحافي عمر المضواحي: «عندما بدأ السيف تغريدته بصورة من مقال قديم للدكتور زياد، وتداخل الناقد المعروف الأستاذ حسين بافقيه بتغريدة استفهامية حول سرّ توقيت تغريدة السيف. يبدو أن الدريس وقع ضحية لهذا الاستفهام، وحملت ردوده ونقاشاته ما يؤكد أن تغريدة السيف الهدف منها أن يجر تجربته الفكرية إلى مقصلة تصفية الحسابات، وتسديد الفواتير القديمة بين الإسلاميين الحركيين، وبين المثقفين الليبراليين في أم المعارك القديمة في الثمانينات من القرن الماضي، معركة الحداثة والأصوليين». ويستبعد المضواحي أي نفَس تحريضي في تغريدة السيف أو انتهازية في الهجوم والتوقيت، بينما يأسف الكاتب فائق منيف من تحوّل «السجال» في عالمنا العربي إلى «قتال» تُستخدم فيه الأسلحة المشروعة وغير المشروعة في محاربة الخصم الذي يُفترض أن يكون الرأي الآخر. ويستكمل منيف حديثه: «من الأسلحة غير المشروعة مثلاً جنوح النقاش من الفكرة والرأي المختلف عليه إلى جوانب أخرى في حياة المتحاورين كعمل المحاور. الفجور في الخصومة يدفع أحد المتحاورين إلى استهداف الطرف الآخر في وظيفته ومنصبه، سواء في القطاع الخاص أم الحكومي، وكأن قدر الكاتب أن يعيش على الصدقات أو على مزاجية رئيس تحرير حتى يؤمّن لقمة عيشه ويكتب ما يريد بعيداً عن وضع جهة عمله في مرمى سهام الجانحين في الحوار الثقافي». ويرى منيف أن موظفي القطاعين الحكومي والخاص من حقّهم أن يكونوا مستقلّي التفكير صادحين بآرائهم المعلنة إن كانت لا تتعارض مع سياسات جهة عملهم، وناصحين سرّاً لجهة عملهم إن رأوا رأياً بديلاً قد يكون أنفع لهذه الجهة على أن ينّفذوا سياسات جهاتهم احتراماً لعقود العمل. وفي حال الإخلال بأمن دولة أو جهة عمل أو تهديد مصالحها ممن ينتمي إليها فإنّ لديها من الأساليب لكشف الحقيقة، والإجراءات الإدارية التأديبية للتعامل معها ما يغني عن المحرّضين المدّلسين. وأضاف: «غازي القصيبي رحمه الله مثلاً كانت لديه كتب ممنوعة من التداول في دولة هو وزير فيها، وهذا أحد الشواهد على التفريق بين الرأي الشخصي والأداء العملي، وعلى رغم التحريضات العلنية عليه في الكاسيتات والخطب والمقالات والمطالبة بإقالته من مناصبه لوقوفه ضد استغلال الدين وتشويهه إلا أنّ ذلك لم يؤثر في احترام الدولة له بصفته إدارياً ناجحاً ورجل دولة مميزاً. ورجل الدولة لا يستحق أن يكون كذلك إن لم يكن له رأي مستقل يسهم به في تحليل وإبداء حلول لواقعه ومجتمعه». وحول مستوى الخلاف بين المثقفين السعوديين في حدوده الثقافية والاجتماعية يقول المضواحي إن الخلاف آفة أي وسط، وهو الشّرارة التي تحرق كل حوار ولا تخلف إلا الضحايا والرماد والأراضي المحروقة وفي أي مجال. لكن الاختلاف هو التربة الخصبة التي تنمو فيها كل ثمار المعرفة الإنسانية بحسب رأيه، ويضيف بأن الوسط الثقافي السعودي في الغالب يعاني من لعنة الخلاف، لا الاختلاف للأسف الشديد. ويرى منيف أن الاختلاف في الرأي رافد ثقافي، لأنه يحفّز المتحاورين على الكتابة والبحث ويفيد القراء في الاطلاع ومقارنة الحجج المنطقية لدعم الرأي، إلا أنّه يفسد عندما يصبح خلافاً لا يهتم المتحاورون فيه بالوصول إلى الحقيقة بل بتدمير بعضهم، وهو ما يؤدي إلى تبادل الاتهامات الشخصية. والمثقف الحق يتجنّب أن يقاد لهذا الطريق الآسن فتراه ينسحب من النقاش منتصراً بذلك لأدب الحوار وثقافة الاختلاف. وتؤكد الكتابة سكينة المشيخص ضرورة الاختلاف فتقول: «لا بد من الاختلاف لأن الجميع ليسوا على حال فكرية واحدة، وإنما هناك اتجاهات متباينة قد ترشح عنها معارك أدبية وثقافية، ولكن ذلك لا يفسد للود قضية، ولا أرى أن الأمر يحتمل تشاحناً وبغضاء بين الأطراف، وإنما قد يصل إلى مرحلة الخشونة اللفظية وتقف عند هذا الحد، لأن مساحات الاحترام واسعة وتبسط على الجميع إدراك أهميتهم الثقافية وقيمة دورهم المجتمعي الذي يجعلهم نماذج وقادة رأي». وتضيف: «بالنظر إلى درجة تمثل الآيديولوجيا في طرح وأخلاقيات المثقف السعودي بشكل عام تقول المشيخيص إن لكل منا لديه آيديولوجيته وفكره وانتماؤه، وعلى هذا تأتي السجالات التي تثري المشهد الفكري والثقافي، ونحن مثل بقية مجتمعات الدنيا التي تتوزع فيها الاتجاهات الفكرية، ولكننا في المحصلة نتفق على الاحترام في ما بيننا من دون المساس والاحتكاك بالقواعد الأخلاقية والخروج عن الآداب العامة والمألوف. ويرى الصحافي عمر المضواحي أنها حقيقة قائمة وفي أكثر من مجال، لا الثقافي فحسب. كل المساجلات الثقافية والفكرية هنا لا بد من أن يظهر فيها بوضوح سيف الأيدولوجية، في مرحلة من مراحل المساجلة. لكن في النهاية، ودائماً، يستطيع المتابع أيضاً، أن يعرف أن اليد التي ترفع شؤم هذا السيف، تكون دوماً وأبداً على ظهر الحصان الخاسر، في أرض المعركة.