تعودنا وخلال أكثر من عقد من الحراك الثقافي والفكري أن يقف قطبا المجتمع وتياراه الإسلامي المحافظ والليبرالي الانفتاحي على طرفي نقيض، فإذا ما جاء رأي أو أطروحة من أحد هذين التيارين هب التيار الآخر لمقارعة تلك الأطروحة والتقليل من أهميتها وإبطال مفعولها، ويكون ذلك في سجال فكري طويل، غالبًا ما يصل الخطاب فيه إلى حالة من التشنج، ولم تسجل أي حالة توافق فكري حول موضوع ما... والاختلاف في الرأي وعصف الأفكار وتلاقح الرؤى ظاهرة صحية ما لم يشب ذلك شيء من التعصب والتشنج.. وحراكنا الفكري زاخر بالاختلافات والتي للأسف سرعان ما تحوله لعراك فكري وسجال إعلامي.. وتتحول القضية لمسرحية هزلية.. كان آخرها ما تابعنا تفاصيله خلال الأيام الماضية؛ إذ تحول المجتمع الثقافي إلى ميدان للمساجلة الهامشية، وأضحت ساحاته مسرحًا للصراع أو قل حلبة قتال ضاري، ولم يكن أطراف ذلك العراك الثقافي إلا ثلة ممن يحسبون على تيار الثقافة ومجموعة نخبوية من كتاب وأدباء وروائيين، فتطايرت شظايا الحروف وأشلاء الكلام، ومزقت مفردة الحوار شر ممزق، واندلق المداد مسطرًا مشاهد هزلية من مسرحية كان أبطالها المثقفين السعوديين، وأضحى المشهد العام عقب تغريدة الأستاذ صالح الشيحي أشبه بملعب الصابون الذي لا يقف اللاعبون فيه للحظة إلا وسقطوا، وما كان أولئك اللاعبون إلا مجموعة المثقفين ليبقى المتابعون على المدرجات متندرين بإسقاطات النخب المثقفة.. والتغريدة لمن لا يعرفها هي سطران كتبهما الأستاذ صالح الشيحي في تويتر بعد مشاركته في الملتقى الثاني للمثقفين السعوديين حيث قال: (آمنت أن مشروع الثقافة التنويري المزعوم في السعودية يدور حول المرأة!). سطران فقط أحدثا زلزالًا داخل الوسط الثقافي نستطيع معرفة قوته التدميرية من خلال ردود فعل وقول المثقفين.. التي توالت بالإنكار والشجب ومن ثم التلويح من قبل البعض باللجوء للقضاء والتهديد بالمحاكمة!! ربما لكون صاحب التغريدة الأستاذ صالح الشيحي محسوب على أوساط المثقفين كان لها ذلك الأثر.. فهو قلب الطاولة على الوسط الذي يرى البعض أنه محسوب عليه ولم يتخيل أكثر المتابعين تشاؤمًا أن يكون وقع التغريدة قويًا على مجتمع النخبة من المثقفين بهذا الشكل، وأن يحدث جلبة وجعجعة بالحجم الذي أحدثته تلك التغريدة، ومن المعلوم رقي مجتمع المثقفين والأدباء، وما يحملونه من وعي وإدراك تام يمكنهم من احتواء كثير من الاختلافات في الرؤى، ولكن ما نتج عن تغريدة الشيحي يعلق الجرس ويدق ناقوس الخطر داخل أوساط المثقفين، وكمتابع لا اخفي قولًا أني تفاجأت ببعض المصطلحات التي دارت في ثنايا بعض السجالات حول التغريدة وعن الهبوط غير المبرر للكلمة والإسفاف في الجمل التعبيرية التي لا يجدر بمثقف أو كاتب أن يتفوه بها ناهيك عن بعض الألفاظ النابية التي خرجت من بعض المتساجلين من الأدباء والمثقفين سواء عبر المنتديات أو القنوات الفضائية، أتابع تلك المشاهد وتلجمني الدهشة بكل معانيها، وتعجز الكلمة بكل مكنوناتها أن تعبر عما اختلج في نفوس الكثيرين غيري. *** الأستاذ الشيحي يصر من خلال خروجه عبر القنوات الفضائية على رأيه وإنكاره لما رأى وشاهد ومازال يصفه بالخزي والعار، متمسكا برؤيته ومعتقده، ويلوح في ثنايا كلامه بأن لديه الكثير مما لم يبح به ويتحدث بلغة التحدي.. ولم يذكر اسمًا واحدًا قط.. فيما ظهر في المقابل من ينافح وينفي التغريدة جملة وتفصيلًا وطلب البعض من المثقفين من الأستاذ صالح الشيحي التعقل والتأني وهناك من هدد باللجوء للمحاكم لأنه يرى أن في التغريدة قذفا، وكأني بالشيحي لامس جرحًا موجعًا أو لامس خطًّا أحمر.. وإني أرى من منظوري الخاص أن مجتمع المثقفين طالما تحدث كثيرًا عن حرية التعبير ونظرية الرأي والرأي الآخر وأنه ليس من حق أحد كائنًا من كان أن يصادر حق الآخرين في التعبير عن رؤاهم.. وأنه يجب احترام آراء الغير، ولكن لم نجد أيًا من تلك الجمل التعبيرية التي تغنى بها يطبق كمفهوم في أسس الحوار.. وكيف خلع المثقفون كل عبارات التسامح واحترام الرأي وحرية التعبير أو بالأصح تعرية المواقف. والشيحي لم يقذف أحدًا بقوله: (مشروع الثقافة التنويري المزعوم في السعودية يدور حول المرأة)، هذا رأيه، فلم الغضب، ولماذا كل تلك الجعجعة التي طار بها الكثيرون والتقفها القاصي والداني.. الجملة لا تنم ولا توحي عن قذف لا من بعيد ولا من قريب ولا تعد من ألفاظ القذف.. ولم يكن لأحد أن يلقي لها بالًا لو لا أن علية القوم أخذوها على أنها صيحة عليهم، وعلى غرار -كاد المريب أن يقول خذوني- جاءت الردود من أوساط المثقفين.. وتنادوا مصبحين.. لماذا هذه التغريدة أقضت مضاجع المثقفين؟ وعلى الرغم من أن التغريدة شديدة البساطة إلا أن المثقفين حملوها ما لم تحتمل وجعلوها قذفًا يستوجب أن يُحاكم عليه الكاتب!! ويستغرب المتابع للمثقفين؛ فقد اعتدنا منهم دائمًا الصراخ بحرية الرأي وحرية النقد وأنه لا يوجد هناك من هو منزه عن النقد والتقييم.. ولكن عندما يصل النقد إلى مقامهم فاحذر فالأمر هنا يتحول إلى قذف وشتم وتجاوز للحدود ويبدأ بكل تأكيد بالتهديد برفع قضية يطالب فيها بإنصافه! عند نخبة المثقفين لماذا اختلفت القيمة وهى احترام الرأي الآخر عن السلوك وهو المطالبة بالمحاكمة؟ هذا روائي يتحدث في بعض رواياته عن الشذوذ في مجتمع جدة.. ولم يتحرك ساكن، ولم يقل أحد إنه عمم... وأخرى كتبت عن مجتمع أهل مكة وشوهت الصورة النمطية عن مكةالمكرمة وأهلها الطيبين.. وكاتبة أخرى صورت نجد وأهلها على أنهم مصدر للإرهاب ولم يرفع أحد شكوى ضد هذه وتلك أو يتحرك سنان قلم من أولئك المثقفين نصرة لأهل تلك المناطق الطيب أهلها ولم يتحدث أحد عن قذف... ما أتمنى أن يلجأ المنافحون من المثقفين الشرفاء للمحاكم ليتم وضع النقاط على الحروف وتوضع العربة خلف الحصان، فداخل أروقة المحكمة سيتجلى الحق ويعرف الشرفاء ويخذل المندسون لتغريب المجتمع..