أين نقف بين «الامبريالية الاميركية» و «الامبريالية الروسية»؟ الجواب المثالي: مستقلين وبعيداً من الإثنتين. بيد ان ضعف العرب من جهة وتداخل مصالح عالم اليوم المعولم وتنافسات القوى فيه لا تسمح بهذه المثالية. الجوهر الاستراتيجي لأية امبريالية هو التوسع وبسط النفوذ لتعزيز المصالح وتعظيمها. كلاسيكياً، كان تحقيق ذلك يتم، في الغالب، بالقوة الباطشة والجيش والغزو والاحتلال، من دون استثناء دور توظيف الوسائل الاخرى مثل الاقتصاد والثقاقة وغير ذلك. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام «النظام الدولي» على أنقاض المانيا النازية، ثم انشطار ذلك النظام إلى قطبية ثنائية، انشطرت الامبريالية الى اثنتين: واحدة اميركية والاخرى سوفياتية. بقي الجوهر ثابتاً، بسط النفوذ وتجنيد الدول والمنظمات للانخراط في هذا المحور او ذاك، لكن اختلطت وسائل التطبيق. دخل مفهوم القوة الناعمة إلى الميدان ينافس القوة الباطشة، اي الايديولوجيا، والتجارة، والإعلام، وطرح النموذج الجذاب، ونشر قيماً معينة. قدم الاتحاد السوفياتي النموذج الاشتراكي/الشيوعي، وقدمت الولاياتالمتحدة النموذج الرأسمالي/الديموقراطي. الإثنان نظرا الى الكرة الارضية برمّتها ساحة صراع وتسابقا حول من يكسب مساحات اكثر. المضمون الداخلي للنموذج السوفياتي كان ديكتاتورياً قائماً على الحزب الواحد. اما الاميركي، فكان قائماً على الديموقراطية والحرية (ولو بنواقص عدة). اتاح النموذج الثاني مساحات واسعة للنقد والاعتراض على امبريالية النظام الخارجية، فقامت حركات احتجاج كبيرة ضد كل الغزوات الخارجية من فيتنام الى العراق. في النموذج الاول كان القمع الداخلي لا يتيح اي حرية او نقد إزاء اي غزو خارجي من غزو التشيك ثم افغانستان، وصولاً (واستمراراً في العهد البوتيني) الى الشيشان وجورجيا. إزاء الامبريالية الاميركية يمكن استخدام مرجعية القيم التي تزعم تلك القيم نشرها كالديموقراطية والحرية للوقوف في وجه سياساتها. أما إزاء الامبريالية السوفياتية او الصينية او الروسية البوتينية الراهنة فليس ثمة مرجعية قيم يمكن التوافق عليها. تأخذ الامبريالية أبعاداً مخيفة عندما تكون خاوية ايديولوجياً ومتضخمة قومياً، ويقودها قائد به هوس شوفيني. تاريخياً، أخطر القادة هم اولئك الذين تصيبهم لوثة الشوفينية القومية، وتستبد بهم شهوة إعادة بناء الأمجاد الغابرة واستحضار الماضي، باعثين في شعوبهم مشاعر الضحية والفقدان، ومستفزين فيهم غرائز الانتقام من الآخرين. القومية الشوفينية تختلط مع العنصرية وتنظر الى الذات القومية بكونها الاعلى والافضل تراتبية، وترى الآخرين وقومياتهم وأوطانهم في مراتب ادنى على السلّم القومي وسلّم «الاجناس والإثنيات». كثير من الحروب الدموية التي دفعت فيها البشرية ملايين الضحايا نشبت عن جنون توسع الامبرياليات القومية الإثنية او الدينية، حيث يأتي قائد ما مهووس بجنون الافضلية وسيكولوجيا الضحية، ويريد ان يصوب التاريخ، ويضع المستقبل «على الطريق الصحيح» رغماً عن كل الحقائق الموضوعية الاخرى. كل ما يقف في وجه مشروع إعادة المجد الغابر وفي وجه تصويب التاريخ وتثبيت بوصلة المستقبل يجب ان يُحارب ويُزاح ويُستأصل. من قلب الشرق الصيني والياباني، إلى قلب الغرب الاوروبي، مروراً بكل جهات الارض، هناك نماذج وسيرورات امبريالية قومية من المفترض ان تكون قد وفرت امثلة وتجارب تردع عالمنا عن التورط في مساراتها. في اوروبا لا تزال تجربة القومية النازية والرعب والموت الذي جلبته على القارة طازجاً، لأن تلك القومية رأت في الجنس الآري العنصر النقي الاعلى والذي يجب بالبداهة ان يحكم اوروبا والعالم كله من ورائها. كل من يعتبر عائقاً وحملاً ثقيلاً يحول دون المضي في طريق ذلك «المشروع الطبيعي»، او حتى يبطئ من انطلاقه، فإن مصيره الاستئصال والموت. القوميات الشرسة لا تدجن بسهولة فضلاً عن ان تموت. رأى العالم كيف انبعثت القومية الصربية من تحت ركام عقود طويلة من القيد اليوغسلافي، وانقضّت على من جاورها والحلم الذي يقودها بكل عماء هو صربيا الكبرى، صربيا العظيمة والمتسيدة، كما كانت مُتصورة في عقول قادة مهووسين مثل سلوبودان ميلوسيفتش ورادوفان كارديتش. كانت النتيجة مجازر وإبادة عرقية في قلب اوروبا مرة اخرى، في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو. الليبرالية الديموقراطية هي الآليات التي اقتحمت فضاء القوميات الشرسة وعملت على تدجينها. الليبرالية الديموقراطية تتجاوز التراتبيات الإثنية والقومية الحادة، وتعلي من قيمة الإنجاز كمعيار تفاضل، وتكرس مبادئ المساواة بين البشر على اساس انسانيتهم. هناك بالطبع اختلالات كبيرة في التطبيق، بخاصة عندما نلاحظ خفوت او عدم انعكاس تلك المبادئ في السياسات الخارجية، لكن الشيء المهم والاساسي في الليبرالية الديموقراطية انها توفر معايير انسانية وعالمية للاحتكام إليها، غير مرتكزة على اية اسس قومية. روسيا بوتين اليوم هي روسيا المهجوسة بإعادة بعث القومية الروسية وأمجادها الغابرة. خطاب بوتين وسياساته الداخلية وبرامجه الانتخابية التي طرحها اثناء ترشحه للرئاسة تنبعث منها روائح الشوفينية. ولتحقيق احلام «روسيا فوق الجميع»، فإن ذلك يعني تبني سلسلة من السياسات الداخلية والخارجية التي تقوم القسر والقوة والإزاحة الإجبارية. داخلياً، تبنى بوتين مفهوم «الديموقراطية السيادية» وهو مفهوم فضفاض وغامض، المقصود المُعلن منه هو عدم السماح لأية اطراف اجنبية بالتدخل في «سيادة» روسيا من خلال التدخل في ديموقراطيتها وأحزابها وجمعيات المجتمع المدني فيها. التطبيق المباشر ل «الديموقراطية السيادية» كان تشديد القبضة البوليسية على الحريات العامة والجمعيات والإعلام وقولبة كل ما هو موجود في المجتمع والسياسة والثقافة وفق رؤية بوتين. وكأحد الأمثلة المُدهشة الآن ليحاول القارئ ان يتذكر إن سمع رأياً حول الشأن السوري من اي سياسي او صحافي او مثقف او ناشط او اكاديمي روسي يخالف الرأي الرسمي؟ في اي بلد آخر على الجهة الاخرى من «الديموقراطية السيادية»، وبدءاً من الولاياتالمتحدة وحتى تركيا ومروراً بكل البلدان الاوروبية، هناك طيف واسع من الآراء يشمل السياسيين والإعلاميين والكتاب والاكاديميين. في السياسة الخارجية، ينطلق بوتين من شوفينية روسية إزاء الجوار الاقليميي تذكر بسياسة هتلر. فبوتين يرى في الجمهوريات الآسيوية «الحيز الحيوي» لروسيا، والذي يفرض على موسكو ان يبقي تلك الجمهوريات تحت النفوذ الروسي وتابعة له، سواء كان ذلك تحت ظل الاتحاد السوفياتي وعبر الشيوعية الاممية، او من طريق مباشر ومن دون التخفي وراء أية مشروعات ايديولوجية. ولم يترك بوتين أي مجال لأي متشكك في سياسته إزاء الجوار الاقليمي، وهي السياسة التي قامت على القسر والبطش والتركيع، من الشيشان وتسوية عاصمتها غروزني بالارض، إلى جورجيا وتركيعها وتنصيب نظام موال لموسكو فيها. بوتين الذي يتشدق بضرورة التزام الدول الكبرى بالقانون الدولي عند طرح افكار التدخل الخارجي في سورية، داس على ذلك القانون وتبختر عليه جيئة وذهاباً في الجوار الاقليمي، ثم لفظه بعيداً. قيصر موسكو الذي يريد ان يدخل التاريخ بكونه من اعاد بعث المجد الروسي بعد الإذلال الذي تعرضت له روسيا إثر انهيار الامبراطورية السوفياتية، وبكونه من اعاد توحيد الاراضي السلافية. ولأنه مهجوس بشوفينية روسية عابرة للحدود وخطيرة، فإنه لا يخجل من رعاية ما يُعرف ب «نادي ثعالب الليل» وهم مجموعات من راكبي الدراجات النارية، والمعروفون بشعور رؤوسهم ولحاهم الكثة، والاوشام والسلاسل التي تملأ سواعدهم وصدورهم، ويعتبرون من اشد مؤيدي بوتين ونظرته القومية الشوفينية. وهم يطوفون في رحلات طويلة سواء في روسيا او البلدان المجاورة لها، وأحياناً تستهوي بوتين ان يرافقهم في بعض جولاتهم. وفي حادثة مشهودة تناقلتها وسائل الاعلام العام الماضي، توقف بوتين مع «ثعالب الليل» في احدى جولاتهم في اوكرانيا خلال زيارة رسمية له للبلاد وتجول معهم وأبقى الرئيس الاوكراني منتظراً إياه اكثر من اربع ساعات. وفي تلك الزيارة نفسها نقلت اقوال وعهود اخذها «ثعالب الليل» على انفسهم امام بوتين بأنهم سيبقون إلى جانبه كي يساعدوه في توحيد الاراضي السلافية التي قسّمها الاعداء! الذي يصفقون لبوتين وروسيا على «القوة» أو «العظمة» التي يبديها في السياسة الدولية عليهم ان يراجعوا انفسهم. روسيا بلد عظيم وتاريخها غني ولا تحتاج إلى سياسة شوفينية كي تثبت نفسها. القومية الشوفينية تقضي على الذات قبل ان تقضي على الآخرين. هذا هو درس التاريخ الذي لا يمل من تعليمنا. * كاتب وأكاديمي عربي [email protected]