يتداول الروس صورةً على المواقع الإلكترونية تثير قلق مَن تجاوز سنهم عتبة الأربعين. هي صورة شخص يرتدي بزة كاكية اللون وصدره مزين بميداليات كثيرة والشيب يغلب على شعره وملامحُه قاسية... كما لو أن الزمان عاد إلى أيام الاتحاد السوفياتي. الصورة هذه لا تعود إلى ليونيد بريجنيف، حاكِم الاتحاد السوفياتي من 1964 إلى 1982، بل هي صورة تخمِّن الهيئةَ التي سيبدو عليها فلاديمير بوتين في 2024، موعد انتهاء ولايته الرابعة. يلجأ الناس في روسيا ودول الاتحاد السوفياتي سابقاً حين لا تجري الامور وفق ما يشتهون، الى الفكاهة. ومنذ اعلان بوتين ترشحه الى الرئاسة يسود أوساطَ المثقفين الروس القلق، وتتردد في موسكو عبارة «فريميا زاستوي» (زمن الكساد أو عهده) التي صاغها غورباتشوف لوصف عهد بريجنيف. اليوم، مؤشرات انبعاث الزمن هذا تُلقي بثقلها على الروس. وبعد عقدين على انهيار الاتحاد السوفياتي، ينظر الروس بعين الإحباط إلى تبدد الأمل بمستقبل واعد وبروز احتمال انبعاث أعوام الكساد العجاف، ولا يخفي من انطلى عليه مشروع مدفيديف «التحديثي» الساعي إلى الانفتاح على الغرب والتحرر من قيود بوتين، خيبتَه. وعلى رغم انخفاض نسبة تأييد بوتين عما كانت عليه في أعوام ما بعد يلتسين، تبلغ النسبة هذه اليومَ نحو 60 في المئة، في وقت يخلو وفاض الأحزاب السياسية المنافسة له من تأييد شعبي يُعتدّ بنسبته. وينمو الاقتصاد الروسي 4 في المئة سنوياً من غير مراكمة ديون عامة أو بروز عجز في الموازنة. فالاقتصاد ينعم بعائدات الغاز والنفط المرتفعة، والقيود على حرية التعبير ضعفت في روسيا، شأنَ القيود على التنقل والسفر، لذا بادرت أعداد كبيرة من الروس الى الهجرة. ووفق احصاء معهد «فتسيوم» الصادر قبل أشهر، يرغب 22 في المئة منهم في الهجرة، و39 في المئة ممن هم في سن بين 18 و24 سنة يريدون الرحيل عن روسيا، شأن 29 في المئة من حَمَلَة الشهادات العالية. وفي 2010، شارك 165 ألف روسي في سحب بالقرعة للفوز ببطاقة الإقامة الاميركية «غرين كارد»، وفاز بها 2353 روسياً. وفي شوارع برلين، تتناهى إلى سمع المرء أصوات بالروسية، وتباع الصحف الروسية في أكشاك الصحف. وثمة شريحة من الروس تتنقل بين روسيا وأوروبا، وتستثمر أموالها في الدول الاوروبية الآمنة وتستفيد من تقديماتها الاجتماعية والصحية، ولكن ثمة من يغادر روسيا نهائيّاً، ومن هؤلاء أندري غيم، المولود في 1958 لوالدين مهندسين في سوتشي جنوبروسيا، والذي كان طالباً لامعاً لكن مسيرته التعليمية تعثرت بسبب أصوله اليهودية الألمانية. فعندما سعى الى الانتساب الى معهد الفيزياء والتكنولوجيا في موسكو، لم يبلغ مأربه إلا بعد سنتين من المحاولة. وفي دوامة انهيار الاتحاد السوفياتي، فاز غيم بمنحة أبحاث ما بعد الدكتوراه في أوروبا، وحاز في التسعينات الجنسية الهولندية، وانتقل في 2001 للعمل في جامعة مانشستر، وعمل هناك مع طالب روسي الأصل مثله هو كونستنتين نوفوزلوف، ويحمل الجنسية البريطانية، وحاز الاثنان في 2010 جائزة نوبل للفيزياء. سلّط فوز نوفوزلوف وغيم بجائزة نوبل، الضوءَ على نزيف الأدمغة الروسية وانهيار الجامعات الروسية. وتفيد منظمة الأونيسكو بأن أكثر من 20 ألف باحث غادروا روسيا بين 1989 و2000، وانخفض عدد العاملين في قطاع البحث العلمي إلى 760 ألفاً في العام 2000 بعدما بلغ مليونين في 1990، شطر راجح منهم ترك البحث العلمي للعمل في مهن أخرى مجزية، سعياً وراء لقمة العيش. وخلافاً لأصحاب الكفاءات العالية الروسية المهاجرة، تعود عشرات آلاف «الأدمغة» الصينية الى الوطن الأمّ، إثر متابعة تحصيل علمي في الغرب، على رغم حيازتها جنسيات أجنبية، تحدوها الى ذلك الرغبة في المساهمة في ارتقاء الصين قوة عظمى. وفي وقت تبدو وجهة الصين السياسية والاقتصادية واضحة، تفتقر روسيا الى مثل هذا الإجماع، ويحول ذلك دون بروز نخبة ثقافية قادرة على تغيير المجتمع الروسي. النخبة اليوم في روسيا هي الطبقة الحاكمة المتحدرة من الجهاز الأمني السابق، التي راكمت الثروات وتمسِك بمقاليد بيروقراطية ينهشها الفساد. ولم ترسِ البوتينية (نسبة الى بوتين) نظاماً توتاليتارياً أو نظاماً سلطوياً عادياً، على ما يرى عالم الاجتماع ليف غوجكوف، فهذا النظام يفتقر إلى أيديولوجيا، ولا يقدِّم للروس بوصلةً سياسية تحدد مسار بلدهم، ولا يحدد أهداف تطور اجتماعي أو يرسم صورة واعدة ومحفزة للمستقبل. الخبير الألماني في الشؤون السياسية ألكسندر راهر، وهو كاتب سيرتَيْ غورباتشوف وبوتين، يذهب الى أن الروس صدعوا وقتاً طويلاً بأفكار عقائدية، وإثر اطاحة الشيوعية بدأت عملية إرساء النموذج الرأسمالي والديموقراطية، لكن روسيا لم تفلح في نقل النموذج الغربي، ولم تَصُغْ نموذجاً مختلفاً ناجحاً. لذا، يعم الروس الشعور بالإحباط والخيبة، فهم الذين لطالما كانوا أصحاب رسالة، فقدوا دورهم ورسالتهم. فهل تكون رسالة الروس مكافحةَ الفقر وتقليصَه، أو تنويع النشاطات الاقتصادية، أو الحؤول دون وقوع الكارثة السكانية التي بدأت نُذُرُها تبرز؟ فروسيا تفقد سنوياً نصف مليون شخص منذ منتصف التسعينات، وفي 2006 بلغت نسبة الوفيات الى الولادات 150 وفاة الى 100 ولادة، والنخب الروسية لا تأبه بمصير الشعب. يبدو أن روسيا لم ترتقِ لتكون أمة بعد، وينقصها مشروع مشترك يحفِّزها، ولا تقنع بعبارات تبقى حبراً على ورق، مثل التحديث والوحدة والتطور الى أمام. ويدحض فلاديسلاف اينوسومتسيف، مدير «مركز الدراسات المابعد صناعية»، المقرَّب من مدفيديف، احتمالَ انبعاث السوفياتية، ويقول إن أوجه الشبه بين روسيا وأوروبا أو اميركا الشمالية ضعيفة، والأغلب على الظن أن تبقى روسيا كما هي، فلا تتطور الى حال أخرى ولا تنهار. والشلل هذا هو أبرز سمات النظام الروسي: يصدع الأفراد للوضع الحالي، ويذللون مشكلاتهم من غير التصدي للمؤسسات في مواجهة جماعية، فالفساد مستشرٍ استشراء فادحاً في المؤسسات الروسية. تُلِمُّ إيلينا بانفيلوفا، وهي سيدة نشيطة وشجاعة، بأشكال الفساد وترصد وجوهه. فهي تركت منصبها الرفيع في باريس وعادت مع أسرتها الى موسكو لافتتاح فرع روسي من منظمة «ترانسبيرانسي انترناشونال» (منظمة الشفافية الدولية) في 1999. بدايةً، كانت بانفيلوفا تؤيّد خطاب مدفيديف لمكافحة الفساد، ووضعت ثقتها فيه، لكن «الفساد بلغ مبلغاً في روسيا لم يكن عليه العام 2000، وتحول الى ضرب من الابتزاز، ولم يعد يقتصر على تقديم الناس طوعاً رشوة الى الموظفين الرسميين، بل صارت عناصر من مؤسسات السلطة تقصد رجال الأعمال وتسلب منهم أموالاً في مقابل السماح لهم بمزاولة عملهم ومواصلته»، تقول بانفيلوفا. وعلى رغم أن الروس كلهم يشكون الفساد، فإنهم يساهمون في دوران عجلته، وتراهن بانفيلوفا على تصدي الطبقة الوسطى للظاهرة هذه. عرض آخر من عوارض الفراغ الروسي، هو انبعاث المشاعر القومية الروسية، المختلطة بمشاعر معاداة مهاجري القوقاز، وهو فراغ سياسي وفكري وأيديولوجي. وتغلب على تعليقات الروس في مواقع الدردشة والحوار الإلكترونية الآراء القومية المتعصبة والعنيفة، ويهنئ أصحاب هذه الآراء أنفسهم على أفول الغرب. والقومية الروسية تفتقر اليوم الى هوية وطنية، كما يرى ليف غودكوف، فبعد عشرين سنة على انهيار الاتحاد السوفياتي، لم تُصَغ الهويةُ الروسية بعد، ولم تُشْفَ روسيا من فقدان الإمبراطورية السوفياتية، ولم تندمل جروحها. وفي خطاب ذائع الصيت في 2005، وصف بوتين أفول الاتحاد السوفياتي ب «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»، وتخلت وريثته روسيا عن طموحاته الإمبريالية التوسعية، وهي تسعى اليوم الى الحفاظ على مكانة القوة العظمى من طريق التوسل بسلاح النفط. إثر خسارتها الإمبراطورية، انصرفت فرنسا الى المشروع الأوروبي، أما الروس، وخلافاً للفرنسيين، فجعبتهم خاوية من مشروع خارجي أو رؤية بديلة للسياسة الداخلية، ووجدت روسيا نفسها في وضع لم تعرفه من قبل. فالهند والصين تفوقتا عليها، كما لاحظ إيغور ايفانوف، وزير الخارجية في عهد بوتين. ولا تملك روسيا خياراً غير تنويع نشاطاتها الاقتصادية ومواكبة التطور التكنولوجي، وسبيلها الى ذلك هو الانفتاح على الغرب، وهي الى اليوم - كما يقول إيفانوف - لم تحسم وجهتها، أهي إلى الغرب أم الى الشرق؟ ف «روسيا متنازعة، وهي ليست أوروبا وليست آسيا، وصارت الأمور معقدة، فهي تنظر الى نفسها على أنها أوروبية، وعينها على النموذج الاقتصادي الآسيوي. ثمة اضطراب ثقافي كبير يشوب النظرة الى مستقبلها»، يقول ابرز خبير في الشؤون الخارجية الروسية، فيودور لوكيانوف. ويبدو أن روسيا هي مثل المرضى الذين يصفهم ماكسيم أوسيبوف في كتابه عن مستشفى روسي، فهي تخشى الموت لكنها لا تحب الحياة، وحري بها أن تتعلم أن تعانق الحياة مجدداً. * مراسلة ومحللة، عن «لوموند» الفرنسية، 8/10/2011، إعداد منال نحاس