حمامات دمشق العثمانية القديمة حلم يتجلى من أعماق الزمان، يسحرنا بهمساته، يجسد لنا عوالم تغمرها السكينة والهدوء فتضيء معها كل ملامح الحياة. تشرق شمس دمشق الفيحاء كل صباح على حماماتها العتيقة المتفردة في أشكالها، والمتناسقة في معالمها فتظهر تفرد الشخصية الدمشقية وعظمة التقدم الحضاري والعمراني للمدينة عبر العصور، لتشعرك كم هي جميلة تلك الحال العالية من الاسترخاء التي تخلو فيها بنفسك في هذا المغطس الممتلئ بالماء الساخن مغلقاً عينيك مبتعداً عن تلك الأفكار والأحداث المربكة التي مرت بك، وإذا بها الأصعب عندما نغلق بعد ذلك صنبور المياه ونتجه لنرتدي ثيابنا ونعود نقيم في أجساد متعبة، منهكة. تقول الأخبار التاريخية التي وصلتنا عن دمشق العثمانية إن أهلها تفننوا في تزيين الحمامات وبنائها، وساعدهم في ذلك كثرة المياه وحب الناس للنظافة والطُّهر. يصف الحصني في كتابه «منتخبات التواريخ» حمامات دمشق فيقول: «أما حماماتها فهي من أشهر حمامات الدنيا، لكثرة المياه فيها. ولها شهرة عظيمة وترتيب غريب، أحسنها حمام سوق الخياطين الموجود ليومنا هذا، مع حمام الملكة بجادة الدرويشية، وحمام البزورية، وحمام السنجقدار. وقد فقدت دمشق حمام القيشاني المشهور في صناعته الهندسية وشكله اللطيف، وبني في محله سوق ساروجة. وهذه الحمامات جميعها غزيرة الماء البارد والحار، ويبلغ عددها زهاء خمسين حماماً، اليوم. وكانت قديماً أكثر». ويقول الحسيني الدمشقي في «الروضة البهية»: «حمامات دمشق من أبدع الحمامات في الدنيا، لما بها من البناء والزخرفة والفرش والخدمة، ولاسيما تزيُّنُها بنوافير الماء داخلاً وخارجاً، وبالبرك (البحرات) المبنية من المرمر والرخام، على أجمل طراز». انتشرت الحمامات في أنحاء دمشق كافة. وكان لكل حارة أو محلة حمام واحد على الأقل. وقد وجدت في محلة القيمرية والبزورية والصالحية والعفيف وسوق الشراكسة والنصارى والشاغور ومحلة تحت القلعة وزقاق درب الوزير والقنوات والدرويشية وسوق باب البريد الذي وجد فيه حمام رامي وحمام القيشاني. وتميَّز كل حمام عن الآخر في نمط البناء من حيث المواد المستخدمة، وطريقة البناء والزخرفة والزينة، إلا أنَّ الحمام بعامة تألف من ثلاث مجموعات أساسية هي: البراني، والوسطاني، والجواني. ورأى كثيرون من السيّاح أن حمامات دمشق أفضل من غيرها من حيث الإتقان والهندسة وغزارة الماء وحسن الخدمة ورخص أجرة الاغتسال فيها. وكما هو متعارف عليه، فالأب يورث ابنه الحرفة التي يحترفها. وعليه، فقد توارث العمل في تلك الحمامات أفرادُ أسر محددة في دمشق مثل آل التيناوي والحنبلي والسمسمية. وعمل فيها أيضاً الانكشاريةُ والأشراف. وكان لهذه الحرفة شيخها، شأن بقية الحرف، في المدينة. وعند توسع دمشق إلى الضواحي المجاورة، في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، بني في كل محلة جديدة، حمام أو أكثر. وذكرت الوثائق العديد منها في الصالحية والمهاجرين وغيرهما. وكانت الحمامات غالية الثمن، فاخرة البناء، ملك الأعيان. فقد بلغت قيمة 2.5 قيراط من قيمة أحد الحمامات، عشرة آلاف قرش في تلك الفترة. وبذلك يكون القيراط أربعة آلاف قرش و 24 قيراطاً × 4 = 96 ألف قرش. وبالإضافة إلى هذه الحمامات الفاخرة، وُجدت حمّامات متوسطة البناء والفرش والخدمة لعامة الناس. وكان من أشهر حمامات تلك الفترة في دمشق: حمام القيشاني، الذي تحول سنة 1325ه/1908م إلى سوق، حمام الملكة بجوار القصر العدلي من الجنوب، وحمام نور الدين في البزورية، وحمام العرايس والعفيف والحاجب والمقدم في الصالحية، إضافة لحمامات المزة والميدان. ولم تكن البيوت الدمشقية تحوي حمامات، بسبب غلاء الوقود وعدم توافره، لذلك كان لحمامات السوق أهمية في تلك المرحلة. وكان أغلب الحمامات الشعبية في دمشق عبارة عن غرف عدة متتالية محلاة بفسيفساء من المرمر والصيني الملون تحفظ الماء نظيفاً وجميعها تسبق بهو الحمام الذي هو عبارة عن صالة فسيحة تتوسطها بركة كبيرة، واتخذ سقفها شكل قبة من الزجاج الملون توزع الإضاءة بشكل مثير، وعلى جانبي البركة وضعت أرائك يستلقي عليها الزبائن ليسلموا أجسادهم المنهكة لأيدي المدلكين. وتتصل بتلك القاعة المستديرة ممرات لغرف صغيرة بمقاعد رخامية تنسكب منها مياه ساخنة تعبق الجو بالبخار الذي يفتح مسامات الجلد ويجلس الزبون مستنداً على وسادة صغيرة، وتؤدي البلانة أو الغلام دورهما بتلك الليف الخشنة بكشط الأوساخ عن الجسد وبعدها تصب زيتاً ساخناً استعداداً للتدليك. والحمامات في ذلك الوقت كانت تقوم بدور اجتماعي إضافة لدور النظافة في تلك التجمعات لأهالي الحي أو الجيران أو الأصدقاء تعقد الصفقات بين الرجال وتدور الأحاديث والمناقشات السياسية. وبالنسبة للنساء كانت الحمامات هي النزهة المسموح بها في ذلك المكان المضبب، فكان هو المكان الوحيد المسموح فيه للمرأة أن تخلع تلك التلال من الملابس خارج المنزل، وهو أيضاً المكان الوحيد المباح فيه انتهاك حرمة الجسد وحيائه تتوالى عليه الأيدي حكّاً وتدليكاً وتشطيفاً بكل تلك الكميات الهائلة من الماء، وتسلط عليه الأضواء والنظرات الفضولية للنساء والخاطبات بحثاً عن عروس ممشوقة القوام. وذكر بعض المؤرخين المعاصرين لتلك المرحلة في مذكراتهم، حبَّهم لمجالس النساء والاستماع إلى كلامهن وحكاياتهن الحلوة، عندما كانوا صغاراً. إلا أن الأعراف غالباً ما كانت تحول دون اجتماع النساء والرجال في المجالس، لذلك اقتصرت حياة المرأة على الاجتماع مع النساء من أهلها وأقربائها. وكان أجمل الاجتماعات لدى النساء يعقد في الحمامات، حيث اللهو والغناء وسماع الموسيقى. وفيما عدا الزيارات والحمامات، لم يكن ثمة أماكن تذهب إليها النساء، فلا مسارح ولا مقاهي سوى التنزه في البساتين المجاورة الخاصة بالمدينة، في فصل الربيع المزهر. فظل الحمام هو ذلك المكان الساحر الذي تدخله المرأة وتخلع عنها همومها ومعها تخلع أشياءها الصغيرة لتهيئ نفسها لتلك الطقوس النسائية التي تجمع في وعاء كبير من الفضة المنقوشة أو سلة من الخوص، مشط من العاج، مناشف مطرزة، صابون بروائح عطرية، مساحيق لإزالة الشعر، عطور حناء، بخور، ما لذ وطاب من صنع أيديهن. ربما تلك الأوعية فرغت الآن من محتوياتها ولكن لا تزال عقول النساء ممتلئة بها، لقد تأقلمت فقط مع مكتسبات العصر ولوازمه، وأصبحت عوضاً عن الوعاء تلك الحقيبة المبطنة بالساتان، وعن ذلك الحمام الشعبي الحمامات الصحية فائقة الأناقة والفخامة في النوادي الصحية والفنادق ومعها يعلو الصخب في شوارعها المزدحمة التي لا تهدأ فيها مظاهر الحياة كل يوم، وتظهر وجهها الحقيقي المشرق فتستدعي في النفس الذكريات الجميلة وتحرك ذكرى الأيام الشاهدة على وجه دمشق الذي يضحك وينزف، وعلى القامة التي لا تنحني رغم مطارق الزمن، ووحشية الغزاة، وجبروت الطغاة. * كاتب مصري