انقضى اسبوعان منذ أن قام سائق الشاحنة جورج والا بتحميل شاحنته بمواد البناء في ميناء مومباسا الكيني متجهاً إلى شركة في جنوب السودان لكنه لم يصل إلى وجهته بعد. ويقول السائق الكيني (30 عاماً) الواقف بجوار شاحنته عند نقطة حدود نيمولي: «انتظر الفحص الجمركي منذ يومين لكن مسؤولي الجمارك لم يجدوا وقتاً لفحص حمولتي بعد». وكل يوم تصل نحو 130 شاحنة من أوغندا وكينيا واثيوبيا وأماكن أبعد من ذلك إلى نقطة التفتيش الجمركي التي لا يزيد حجمها عن ملعب كرة قدم في بلدة حدودية صغيرة. واصبحت نيمولي، التي بناها الحاكم البريطاني المستعمر لتكون علامة لآخر حدود وجوده في السودان، شريان حياة لجنوب السودان منذ انفصال احدث دولة في العالم عن الخرطوم عام 2011 بعد حروب أهلية استمر عشرات السنين. ويعتمد جنوب السودان غير المطل على بحار على صادراته النفطية التي تتدفق شمالاً في تمويل موازنة الدولة وما زال عرضة لقطع الامدادات بسبب النزاعات على رسوم مرور استخدام خط انابيب نفطي وصراعات على الحدود مع السودان. وتعتمد الدولة الجديدة التي تفتقر لأي انتاج صناعي تقريباً ولديها طرق ممهدة تمتد نحو 300 كيلومتر فقط على سائقي الشاحنات مثل والا في امدادها بكل شيء من الوقود إلى الجعة والملابس وأجهزة الكومبيوتر المحمولة واللحوم المجمدة. وكلما اغلق الطريق تواجه المتاجر في البلاد صعوبات في الحصول على إمدادات، فيصعب العثور على الطماطم (البندورة) في العاصمة جوبا هذا الأسبوع بعد أن قطعت فيضانات نقطة عبور نيمولي لأيام. ولكن المرور عبر الحدود تزايد منذ ان حول مشروع تموله الولاياتالمتحدة الطريق الطيني الباقي من عهد الاحتلال البريطاني إلى الطريق الوحيد الممهد في جنوب السودان. وكان التأثير على الاقتصاد فورياً. ويقول كيمو اديبو استاذ الاقتصاد بجامعة جوبا: «طريق نيمولي الجديد عزز التجارة وخفض تكاليف نقل البضائع». وانخفض معدل التضخم السنوي إلى أقل من عشرة بالمئة من اكثر من 40 بالمئة منذ استكمال الطريق في الخريف الماضي. ومن جوبا على مسافة 205 كيلومترات شمالي نيمولي تكمل بعض البضائع رحلتها في طرق وعرة إلى بقية أرجاء الدولة الشاسعة. ويستغرق الطريق نحو شهر لنقل المشروبات الغازية القادمة من دبي والتي تحمل في مومباسا لتصل إلى الريف. ويقول المسؤولون عن طريق نيمولي إنهم ينتهون من إجراءات الجمارك بسرعة لكن سائقي الشاحنات المنتظرين في طقس شديد الحرارة يحكون رواية مختلفة. وجاهد جنوب السودان لتأسيس إدارة جمارك فعالة. ويقول والا وسط إيماءات بالموافقة من سائقين آخرين «ليس لديهم أكواخ تفتيش كما هو الحال على الحدود الكينية الأوغندية». واضاف «هنا يتعين علينا انتظار مسؤول الجمارك حتى يأتي لمركبتنا». ولا تفتح الحدود إلا من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة عصراً، إذ يصبح الطريق من نيمولي إلى جوبا خطرا في الليل وتقع العديد من حوادث الخطف والسطو على المسافرين. ولا ينتج جنوب السودان، الذي ما زال متأثرا من حرب أهلية طويلة الأمد، اي منتجات غذائية باستثناء الاساسيات مثل الحليب والمياه المعدنية كما ينتج الجعة بفضل شركة «سابميلر» وهي إحدى اكبر الاستثمارات الأجنبية في منذ ما قبل الانفصال. وأصدرت الحكومة قانوناً للاستثمار لتشجيع التنمية الزراعية لكن عدم كفاية المحاكم وغياب قوانين الأراضي قد يعطل حتى اكثر المستثمرين جرأة. ولكن مازال بامكانك الحصول على أي شيء في جوبا، وهي مدينة صاخبة تتميز بمنازل من طابق واحد وبضعة مبان إدارية حديثة. فالمتاجر تبيع مولدات الكهرباء وشاشات التلفزيون المسطحة وحليب الأطفال والملابس الداخلية المستوردة من الصين. وتصل هذه البضائع بفضل تجار مثل أشرف الذي رفض الادلاء باسمه كاملاً لأن جزءاً مما يقوم به غير مشروع. وقبل ان يتحدث اصطحب مراسل «رويترز» إلى خلفية متجره المكدس حتى السقف بأحدث اجهزة الكمبيوتر. ويحتاج أشرف لشراء الدولارات من السوق السوداء إذ يجد البنك المركزي صعوبة في توفير العملة الصعبة بسبب قطع امدادات النفط منذ 16 شهراً نتيجة خلافات مع السودان. والعلاقات لا تقل أهمية عن الدولارات. وقال: «إذا لم تكن على معرفة بأحد ضباط الجمارك ستدفع الكثير». ولتأمين امدادات متصلة يسافر هو أو زميله إلى كامبالا او مومباسا كل شهر لشراء أجهزة الكمبيوتر وتحميلها في شاحنة بتكلفة 8500 دولار. وليضمن وصول بضائعه في موعدها يقوم بنفسه بتخليصها جمركياً في نيمولي. وحتى إذا لم يدفع جمارك باهظة يظل سعر جهاز الكومبيوتر المحمول أغلى نحو 300 دولار عن نظيره في اوغندا. وحتى الانفصال كانت اغلب احتياجات جنوب السودان تأتي من الشمال. فتصل الواردات إلى ميناء بورسودان المطل على البحر الأحمر ثم تنقل عن طرق النيل جنوباً. ومنذ اتفاق السلام الذي أنهى الحرب الاهلية عام 2005 سعى المسؤولون الجنوبيون لخفض الاعتماد على الخرطوم بالتخطيط لطرق جديدة إلى اوغندا وكينيا واثيوبيا. ويجري العمل على عدة مشروعات طرق لكن سيظل طريق نيمولي على مدى سنوات شريان الحياة البري الوحيد. وقبل الانفصال اغلق السودان الحدود المشتركة فيما وصفه مسؤولون من الجنوب بأنه حرب اقتصادية. واتفق الجانبان في آذار (مارس) على إعادة فتحها لكن ذلك لم يحدث بسبب الافتقار للثقة. ولكن ظلت بعض المنتجات تتسلل إلى جنوب السودان. ويقول محمد آدم أحد آلاف السودانيين الذين يعملون في تجارة التجزئة في جنوب السودان: «المعكرونة تأتي من السودان وكذلك الشاي والسكر. الباقي يأتي من أوغندا وكينيا». ورغم فاتورة الواردات الضخمة ظلت عملة جنوب السودان مستقرة بدرجة كبيرة. فخسرت 35 في المئة بعد وقف تدفقات النفط في اوائل 2012، لكن يجري تداولها منذ ذلك الحين في السوق السوداء بسعر بين اربعة و4.6 جنيه للدولار في حين يبلغ السعر الرسمي ثلاثة جنيهات للدولار. ولكن الجنيه السوداني خسر 75 بالمئة من قيمته في السوق السوداء بسبب خسارة رسوم خط الانابيب من جنوب السودان. ويرجع الديبلوماسيون صمود عملة جنوب السودان إلى جيش من عمال الإغاثة وموظفي الاممالمتحدة الموجودين في البلاد فضلاً عن رجال الأعمال الأجانب مثل اصحاب شركات البناء او المطاعم. وفي ظل غياب التحويلات المصرفية وبطاقات الائتمان يدخل الأجانب آلاف الدولارات نقداً يومياً عبر مطار جوبا. شاحنات متوقفة في احد شوارع نيمولي بسبب الفيضانات. (رويترز)