الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بشرّي: جبال "القوات اللبنانية" وكهوفها... الأصول البعيدة وإفضاؤها إلى عائلة عليا تجبّ سائر العائلات (2 من 2)
نشر في الحياة يوم 31 - 08 - 2013

بعد أن تناولت حلقة الأمس الطريق المتعرّج من العائلات المتنازعة إلى الحزب الواحد، هنا التتمّة الأخيرة:
ما من شكّ في أنّ القوّاتيّة، في بشرّي كما في غيرها، تغذّت على هالة بشير الجميّل إبّان صعوده أواخر السبعينات انتهاءً بانتخابه رئيساً ثمّ اغتياله في 1982. لكنّ الوصول إلى ما يقارب التطابق بين القوّاتيّة والبشراويّة سلك دروباً ملتوية ظلّ سمير جعجع السائر الثابت فيها. فإذا صحّ أنّ الأخير وافد من الخارج، ما مكّنه من الإطلال على نزاعات العائلات من فوقها، فإنّ الشقّ الداخليّ، أو البشراويّ منه، كان يندرج في السعي إلى تغييرٍ ما تتداخل عداليّته الغامضة بلبنانيّته الحادّة مثلما تتداخل مسيحيّته الطهرانيّة باستعداداته الحربيّة. إنّنا، هنا، أمام الكاهن المزارع والمقاتل.
تعليم وحزبيّة مبكرة
فآل جعجع لم ينتسبوا إلى نادي العائلات السياسيّة، وحين وقف وهيب جعجع، وهو ابن مكاريّ، ضدّ مرشّحي العائلات، قُتل في 1944 بعد أشهر على انتخابه نائباً. هكذا، برز بعضهم خارج السياسة، كأولئك الذين انصرفوا إلى النشاط المصرفيّ وأسّسوا مبكراً بنك جعجع، لكنّ بعضاً منهم لعبوا أدواراً في الموجات التي تعاقبت، بطريقة أو أخرى، على رفض الواقع البشراويّ القائم.
فكما يروي هوّاش فخري، الموسيقار والمؤرّخ الشفويّ لبلدته ولعائلاتها، ظهر شيوعيّون كالأخوين المحامي يوسف طوبيه جعجع وشقيقه المُقعد جميل. ومع أن الشيوعيّة بدت للبشراويّين معتقداً منبوذاً، بسبب الإلحاد والاستيلاء على أملاك المالكين، كسب الأَخوان مناصرين من عائلتهما كانا يحرّضانهم ضد «الإقطاع» والكنيسة. كذلك برز في «الشبيبة العماليّة الكاثوليكيّة» (جوك) جعاجعة وقف على رأسهم وديع العبد جعجع الذي تأثّر بشيوعيّي عائلته. وكان لهذه الجماعة التي أسّسها، في بلجيكا عام 1925 الأب جوزيف كاردغان واثنان من العلمانيّين الكاثوليك، وأريد لها أن تنافس الشيوعيّين في العمل النقابيّ والدفاع عن مصالح العمّال، أن نقلت أجواء عمّاليّة من فرنسا إلى شمال لبنان. هكذا، خاضت نشاطاً مطلبيّاً ضدّ شركة قاديشا، وسادتْها دعوة مسيحيّة مساواتيّة، فضلاً عن مساهمتها في توسيع الأفق المحلّيّ لسكّان البلدة وربطهم ببعض ما يتعدّى عائلاتهم ممّا يدور في العالم الواسع.
وأهمّ ما فعلته «الشبيبة الكاثوليكيّة»، التي أسّسها في بشرّي الأب اليسوعيّ فيليب شبيعة، تركيزها على التعليم والعمل الاجتماعيّ. فبصفة شبيعة مديراً للمدرسة الرسميّة في الأربعينات، افتتح التكميليّة الأولى في بلدته، رافعاً أعداد التلاميذ في المرحلتين الابتدائيّة والمتوسّطة من 60 إلى 550. واستطراداً على اهتمام الأب فيليب هذا، أدخل السينما إلى بشرّي كما أقام ندوات ثقافيّة وأنشأ «الصليبيّة» (croisiere)، رابطةً توحي الاستعداد القتاليّ للدفاع عن الإيمان القويم. وليس بلا دلالة أنّ أحد الذين تولّوا قيادة «الشبيبة» كان أنطوان بركات رحمة الذي انتسب إلى الحزب نفسه الذي انتسب إليه جعجع لاحقاً، أي حزب الكتائب. وما بين شقّ دينيّ صرف وآخر اجتماعيّ «نضاليّ» يقارب «الاشتراكيّة الطوباويّة»، نشأ ما تأثّرت به القوّات ولا تزال، ممّا تعود جذوره إلى حركة الأب فيليب وشبيبته. ثمّ جاءت القدرة العسكريّة تعطي بعداً «صليبيّاً» أعمق وقدرة عمليّة على صون تلك المبادئ.
ولكن هذه البدايات الحزبيّة والتنظيميّة لم تكن، بالطبع، كافية للتغلّب على عائليّة بالغة التجذّر. ذاك أنّ من كانوا يقودون «الشبيبة» كانوا يجرّون أبناء عائلاتهم إليها، فضلاً عن أنّ الأب شبيعة هو نفسه ابن خالة حبيب كيروز، أحد أبرز أقطاب العائلات. لكنْ، يبقى أنّ بعض الذين تخرّجوا في مدرسته وذهبوا للدراسة خارج بشرّي، لا سيّما في الجامعة اللبنانيّة، عادوا إلى بلدتهم أعضاء في حركة الوعي والحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ ومنظّمة العمل الشيوعيّ. وقد أنشأ بعض هؤلاء المحتجّين على العائلات ،«الشبيبة البشراويّة» التي ما لبثت أن نافست «شبيبة» الأب المؤسّس.
والحال أنّ التعليم الذي باشره الأخير مضى، عبر الجامعة اللبنانيّة والجامعات الخاصّة، في تقويض سلطة العائلات. فقد عمّت المهن الحديثة في عالم تنتشر فيه الملكيّة الزراعيّة الصغيرة والمتوسّطة، بحيث «لم يعد الناس في حاجة إلى تنفيعات الزعيم التقليديّ».
عبّاد جعجع ونقّاده
أحدث سمير جعجع درجة بعيدة من التماهي بين البشراويّة والقواتيّة. فباستقلال القوّات عن الكتائب، واستقلال جعجع عن قيادة آل الجميّل التي يتّهمها البشراويّون بخيانة «الحكيم» إثر إصابته في إهدن في 1978، لم تعد هناك قيادات بيروتيّة وجبليّة ولا «إقطاع» سبق أن دعاهم جبران خليل جبران لأن يمقتوه. وبالفعل بات يُنظر إلى حزب الكتائب، الذي فقد كلّ حضور في بشرّي، بصفته جزءاً من ماضٍ جبّته القوّات وسيّدها.
فوق هذا ف «الحكيم»، وفق جو فخري، استجاب وظيفيّاً لحاجات مُلحّة، ف «حقّق انصهاراً بشراويّاً كاملاً، ومنذ بروزه لم يسقط قتيل واحد في بشرّي». لقد حوّل الطاقة التي كانت تُبدّد في الصراعات بين العائلات في وجهة أخرى يشقّها الحزب القائد ويرسمها.
وعلى رغم تاريخ العداء بين زغرتا وبشرّي، من إحراق البشراويّين إهدن في 1913 حتّى المقتلة البشعة في 1978 التي شارك فيها سمير جعجع وأصيب في يده، لم يعد يسقط قتلى بين البلدتين اللتين انضبط خلافهما السياسيّ والعصبيّ في مجاري التناقضات الوطنيّة الأعرض.
واستطاع جعجع، إلى ذلك، أن يقيم علاقات «تعاونيّة» مع أثرياء البلدة «لما فيه مصلحتها»، من الراحل أنطوان شويري إلى منير بركات رحمة وحبيب الشدياق.
وعلى العموم نجح حزب جعجع في الإحلال محلّ زعماء العائلات من دون أن يُراق دم. فالزعماء التقليديّون «كلّهم إلى انقراض»، كما يقول غلاة القوّاتيّين. أمّا العائق الوحيد المتبقّي، وهو نسبيّ جدّاً، فيمثّله جبران طوق، عمّ ستريدا، زوجة سمير جعجع. فهذا الرجل الثمانينيّ الذي عُرف بوقوفه في وجه آل فرنجيّة منذ 1972، لا يزال يحاول أن يستنهض العصب العائليّ في مواجهة الاستئثار القواتيّ.
فالقوّات، منذ 2005، تسيطر على المقعدين النيابيّين في بشرّي ويفوز مرشّحاها بفارق كبير عمّا يناله منافسوهما. كذلك، تسيطر القوّات على المجلس البلديّ المؤلّف من 17 عضواً، حيث لم ينجح أيّ مرشّح ينافس لائحتها. وهي تستطيع، وفق البعض، أن تجيّر كتلة ناخبة تضمّ 2500 صوت من أصل مجموع المقترعين البالغين خمسة آلاف. فوق هذا، تمسك القوّات ب «لجنة جبران الوطنيّة» بحيث يسود رأي أحاديّ يعدم كلّ نقد أو مغايرة.
هكذا، نشأت ثقة بالنفس هي التي حملت القوّات على أن تعرض على المدرّس اليساريّ، المسلّم له بالنزاهة، أنطوان الخوري طوق، رئاسة البلديّة.
عائلة القوّات
لكنّ بشرّي لم تغدُ صوتاً واحداً في رواية قصّتها مع القوّات. فثمّة من يقول، مدلّلاً على أنّ العائليّة لا يمكن أن تُهزم هناك، «إنّنا صرنا ثماني عائلات بعدما كنّا سبعاً». ويذهب المحامي هاني رفول رحمة، الذي لا يكتم حنينه لزمن العائلات، إلى تبهيت الخلاف أصلاً: ذاك أنّ العائلات والقوات تحمل الأفكار والتوجّهات نفسها في ما خصّ لبنان والمسيحيّين، وما من أحد بديل عن أحد.
بيد أنّ الشاعر أنطوان مالك طوق، رئيس رابطة آل طوق، يقدّم مطالعة نقديّة تبدأ من رفض التعميم والتطابق بين بشرّي والقوّات. فهو يرى، مثلاً، أنّ أكثريّة آل طوق الذين في القوّات ليسوا من سكّان بشرّي بل من المقيمين في الساحل. كما يميّز بين قوّتها داخل العائلات، ملاحظاً أنّها أقوى ما تكون في عائلات سكّر وفخري وجعجع، أي تلك التي افتقرت دائماً إلى زعامة والتي تُعدّ الأقلّ عدداً والأميل سكناً إلى بشرّي التحتا. ويتّفق آخرون مع مالك طوق إذ يستوقفهم أنّ سمير جعجع ليس محاطاً بأفراد من العائلات البشراويّة الكبرى.
أمّا نجاح القوّات فيعود، في نظر مالك طوق، إلى تشرذم خصومهم من التقليديّين وعجزهم عن التلاقي في ما بينهم. ويتحدث بشراويّون كثيرون عن جبران طوق بصفته الخصم الذي تحلم القوّات بمثله: فهو، على رغم تقدّمه في السنّ، احتفظ بتعنّت لا يتعب واستعراضيّة منفّرة لا تفتر، من دون أن يكون في سجلّه الطويل إنجاز واحد لمصلحة البلدة.
ويرسم بشراويّ آخر لوحة عن باقي منافسي القوّات: «فروي عيسى الخوري حلّ محلّ عمّه قبلان، لكنّه لم يملأ الفراغ. أمّا حبيب كيروز فلم يترك وريثاً، فيما بطرس سكّر مرشّح دائم الفشل، وسعيد طوق بلا أيّة خبرة سياسيّة تُذكر».
على أنّ أنطوان مالك طوق يبقى من المؤمنين بأنّ السيطرة القوّاتيّة ليست أبديّة ولا مطلقة. فهو نفسه خاض المعركة ضدّ القوّات في «لجنة جبران» ونال في عائلته ثلاثة أصوات مقابل ثلاثة أصوات لهم. وتحدّى فيروز جعجع مرشّحَ القوّات على مقعد اختياريّ وفاز عليه، من غير أن يرضخ لضغوط ستريدا جعجع التي طالبته بالاستقالة. ولا ينسى طوق الإشارة إلى أنّ العلاقات مع التقليديّين كانت أسهل وأسلس قياساً إلى العلاقة بسمير جعجع الذي يقيم في معراب البعيدة. وكون القوّات عائلة عليا يجد تكثيفه في العائلة الصغرى لسمير وستريدا. هكذا، يرى محبّوهما أنّها سيّدة لطيفة و «قريبة إلى الناس»، فيما يتحدّث نقّادهما عنهما كما لو أنّهما مصغّر عن الرئيس الأرجنتينيّ خوان بيرون وزوجته الشهيرة إيفيتّا. فهم يصفونهما بالاستعلاء والاستهانة حتّى باعتراضات محازبيهم.
وإذ يشدّد القوّاتيّون والموالون لهم على وجه ستريدا المناضلة والصابرة التي انتقلت فجأة من فتاة مرفّهة إلى زوجة سجين، فوقفت إلى جانب زوجها في محنته، ودافعت عن «الشباب» الذين يُستدعون إلى الأقبية بصفتها «أخت الرجال»، يرى خصومهم أنّ ستريدا التي ترعرعت في غانا بأفريقيا، تعوّدت على ألّا ترى الناس إلّا بصفتهم «عبيداً»، وأنّ تعاليها ونزعتها الاستئثاريّة تسبّبا بخروج الكثيرين ممّن كانوا أركاناً في القوّات من حزبهم هذا.
كائناً ما كانت الحال، تبقى هناك علامة استفهام اسمها إيلي كيروز.
فالنائب الثاني لبشرّي يكاد يكون الشخص الوحيد الذي يتحقّق حوله إجماع إيجابيّ يلتقي عليه كلّ من تحدّثنا إليهم. فهو جدّيّ وصادق ونزيه، وفق الأوصاف التي تُطلق عليه، وهو «أكثر من ستريدا وجوداً بين الناس»، كما يقول الغامزون من قناة «العائلة الحاكمة». لكنّنا، مع هذا، لم نعثر على صورة واحدة لهذا الشابّ وسط غابة الصور التي تحظى بها ستريدا. لقد صدر إيلي عن جبّ بو حمد الذي لم يُعرف بدور سياسيّ في عائلته، ليطلّ على الحياة يساريّاً حالماً، قبل أن ينقلب مؤمناً حالماً يتولّى، بصفته هذه، «الإعداد الفكريّ للقوّات» ويغدو نائباً من نائبيها الاثنين.
والحال أنّ التباس موقع إيلي كيروز يفتح الباب على مسألة أعقد.
ذاك أنّ بشرّي أصغر تعداداً من نصف قضائها، ومع هذا فنائباها منها، عملاً بالتقليد الذي أسّسته العائلات القديمة. فحدشيت وحصرون والحدث وسواها مستبعدة تقليدياً ويُنظر إليها بدونيّة كما يُسمّى أبناؤها «أولاد المزارع». لكنّ جعجع، وفق جو فخري، وبسبب وجود قوّات في القضاء كله، ساوى بين بشرّي وسائر القضاء، فقرّرت القوّات أن ترشّح لأيّة انتخابات مقبلة مهندساً من حصرون اسمه جوزيف إسحق يحلّ على لائحتها محلّ... إيلي كيروز.
خدمات ومواقف
يصرّ خصوم القوّات ونقّادها على أنّها لم تفعل إلّا القليل لمنطقتها، وما فعلته هو في معظمه تفعيل لمشاريع سابقة على القوّات. ويصرّ القواتيّون على أنّ جعجع أمّن من موازنة الحزب خدمات لبشرّي لا توفرها الدولة، فضلاً عن تأمينه، من خلال مواقع في الدولة، تسريعاً أو تنفيذاً لمشاريع بطيئة أو مجمّدة كشقّ طرقات وأوتوسترادات أو توسيعها وبناء سدود وتأمين مياه. ويُذكر، في هذا السياق، أنّ ستريدا أقنعت البليونير المكسيكيّ اللبنانيّ الأصل كارلوس سليم ببناء ملعب، وحصلت على مساعدات قطريّة لبناء مساكن للطلاب، كما أقام جعجع مستشفى يعود تمويله إلى الدولة عبر القوّات. ومن المشاريع التي تُذكر الأوتوستراد المعروف بدورة قاديشا الممتدّ من كوسبا في الكورة إلى إهدن مروراً ببشري وجوارها، وجرّ مياه إلى منطقة العرقوب والقصر البلدي الذي دفع أكلافه المتموّل منير بركات رحمة، وخدمات يصار إلى تقديمها عبر «لجنة جبران»، من دون أن تكون بينها خدمات خاصّة.
لكنّ حديث المشاريع والخدمات يبقى عابراً وثانويّاً بالقياس إلى رغبة البشراويّين في تناول الشأن العامّ.
فجو فخري، مثلاً، يعتبر أنّ بشرّي أكثر من سواها تأثّراً بالوضع السياسيّ اللبنانيّ لأنّ غالبيّتها قوّاتيّة ولأنّ جعجع منها، مسجّلاً أنّ أهل بشرّي يحبّون مواقفه الوطنيّة، خصوصاً موقفه من حزب الله كفريق مهيمن ومسلّح. أمّا السنّة فليس لديهم أيّ اعتراض على التحالف معهم، لأنّهم «تبنّوا شعاراتنا حين قالوا: لبنان أوّلاً (...) وبسبب خطاب جعجع صار البشراويّ يحسّ، للمرّة الأولى، أن الطرابلسيّ والعكّاريّ وابن الضنيّة شركاؤه في الوطن».
والحقّ أنّ بشرّي التي ربّما كانت أصفى أقضية لبنان مارونيّاً، وأقلّها انطواء على الأقليّات، بما فيها المسيحيّة، لا تملك أيّة «حدود» مشتركة مع السنّة، بينما تلاصق المناطق الشيعيّة في البقاع. وهذا الجوار لم يكن دائماً سعيداً، حيث يضرب نزاع الشبيه بشبيهه في عشرات السنوات. وثمّة من يقول إنّ أوّل تهجير سكّانيّ عرفه لبنان يعود إلى 1952 وإلى تلك المنطقة تحديداً، حيث هُجّر أبناء قرية صوغا الموارنة، وهم من آل الأطرش الذين يُعدّون جبّاً من آل سكّر، من البقاع إلى بشرّي.
وهذه الخلفيّات الغائمة ربّما ساهمت في تفسير التحالف الذي أنشأته 14 آذار. ووفق رئيس البلديّة أنطوان الخوري طوق الذي لا يخفي ارتياحه لهذه التطوّرات، باتت بشرّي في السنوات الماضية، وعلى نحو غير مسبوق، تشهد حفلات إفطار في رمضان.
أمّا الثورة السوريّة فالحديث عنها يردّ قواتيّي بشرّي إلى ذاكرة نزاعهم مع الجيش والأمن السوريّين. فنحن، كما يقول جو فخري، «من أكثر المناطق التي أزعجت السوريّين. كنّا معهم مثل الفلسطينيّين مع الإسرائيليّين. دائماً كنّا نقاوم. مناوشات صغرى كثيرة وحالات خطف متبادل...». لهذا، فإنّ «شعب بشرّي»، كما يضيف فخري، «يحسّ بقوّة بالثورة السوريّة وهو معنيّ بها، ولا شعور لديه بتاتاً بأنّ المسيحيّين مهدّدون. فالمسيحيّ يجب أن يلعب دوره كمشارك بفعاليّة في الحياة السياسيّة».
ويطلعنا الخوري طوق، رئيس البلديّة، على وجود ما يتراوح بين 200 و230 عائلة سوريّة في بشرّي، مشدّداً على حرصه وحرص بلديّته على نيلهم حقوقهم وحمايتهم من أيّ تعدٍّ مقابل حملهم على الانضباط بالقوانين المرعيّة. وبالفعل ترتفع في ساحة بشرّي لافتة تحدّد أجور اليد العاملة كما لو أنّها وثيقة ملزمة.
وكمثل باقي لبنان، تبدو الحياة الثقافيّة في بشرّي فقيرة. فهي مرتبطة ب «لجنة جبران الوطنيّة» التي تهتمّ بنشاطات متفرّقة وبمساعدة أندية ثقافيّة ورياضيّة، فيما تشرف القوّات على ندوات تعقدها كلّ أربعة أشهر أو خمسة يغلب عليها، بطبيعة الحال، الطابع التوجيهيّ. لكنّ حضور الأمن ملحوظ هناك، يشترك في الإقرار به القوّاتيّون وخصومهم. فالأجهزة الرسميّة تمارس دورها بدرجة معقولة، الشيء الذي تأتى عنه تراجع تجارة العبور الوسيطة للمخدّرات. أمّا السلاح غير الشرعيّ فلا أثر له، وإن كان البشراويّون، مثلهم مثل سائر اللبنانيّين، يحتفظون في بيوتهم بالأسلحة الفرديّة.
نسأل مقرّباً من القوّات ما إذا كانت هناك بنية عسكريّة خفيّة أو نائمة في بشرّي، فينفي بالمطلق، ثم يرفع عينيه باتّجاه الجبال ويخفضها باتّجاه الكهوف كما لو أنّه يستشير أرواح الأجداد ويحيل إلى تلك الطبيعة بصفتها الجواب.
بشرّي: جبال "القوات اللبنانية" وكهوفها ... الطريق المتعرّج من العائلات المتنازعة إلى الحزب الواحد (1 من 2)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.