في ذروة تجلي التجميل، تنبجس علامات الغموض ليجعل من لحظة الجمال محرجة تتجاوز حروف اللغة وتستعصي تلك اللحظة على التشريح أو الاختزال أو التعبير. من هنا تم الربط بين الصوفية والفنون، إذ تبدّت اللحظة الفنية بكثافتها لتنافس اللحظة الصوفية بعمقها وتكثفها وغموضها، هذا التشارك بين اللحظتين خدم الرؤية الفنية العميقة وأحيت الذوق الجمالي وأنماط التفكير والرسم والتحليل، حتى في السينما أو الموسيقى تبدو لحظة تجلي الجميل صوفية في معانيها ورموزها وعلاماتها. الجمال يخاطب العمق والسطح معاً، يخاطب النزعات والحوافز الذاتية، الجمال يختبئ بالنفس أكثر مما ينسدل باللسان، فهو عصيّ على التعبير، ومن جميل قول هيراغليطس: «لن تجد تخوم النفس إن كنت تبحث عنها حتى لو طرقت كل طريق، ذلك أن لوغوسها بالغ العمق». إذا كان هيغل يعتبر الجمال بأنه «تجلي الفكرة بطريقة حسية» فإن هذا لا يشرح غموض الجمال أو انبجاسه أو علاماته ورمزيته، ذلك أن التعريف بهذا الاختزال إنما يجعل الجمال مدركاً ومفهوماً ومشروحاً. الجمال بطبيعته يخاتل ويراوغ، ليس جرماً يمكن جسّه ولا مثالاً يمكن بروزته، بل يتحوّل ويتجدد ويتغير، وإذا كان الجمال يتحول تبعاً للذوق فإنه لا يمكن أن يكون نظرية، بل هو فضاء وضوء ووميض أكثر منه رؤية أو فكرة أو مثالاً يحتذى. في أيار (مايو) عام 1980 ألقى بيير بورديو محاضرة بعنوان: «تحوّل الأذواق» ونشرها ضمن كتابه «مسائل في علم الاجتماع»، وبورديو من المتأملين في علاقة التصوف بالجماليات والفنون. في كانون الأول (ديسمبر) عام 1978 أجرى سيريل هوفي حواراً مع بيير بورديو حول الموسيقى والعالم قال فيه: «إن أكثر الفنون صوفية وأكثرها روحانية هي لربما ببساطة أكثرها جسدية، وهو ما يجعل الحديث عن الموسيقى صعباً جداً من دون استخدام نعوت أو علامات تعجب، فقد كان كاسيرير يقول إن العبارات الرئيسة للتجربة الدينية كالمانا والواكندا والأوريندا هي كلمات تعجب أي تعابير نشوة». كما أن التجربة الصوفية حرقة خاصة، فإن التجربة الجمالية بصمة خاصة لا تتكرر لدى الآخرين. الوميض الذي زلزل ابن الفارض غير الذي زلزل ابن عربي، النشوات الوجودية تشبه كثيراً النشوات الجمالية. يغدو الجمال فضاءً تتداخل ألوانه وتنفجر عيون مياهه على بعضها فيتغذى كل نهر على الآخر، الجمال أكبر من أي مثال، من هنا يكون التحديد الصارم معادياً للجمال، لأن ما يحدد يأسن كما يأسن الماء. في مجال التحديد هذا يكتب سارتر عن مفارقة الجميل للعالم إذ رأى أن «الجميل ليس كائناً قابلاً لأن يكون موضوعاً للإدراك إنه في صميم مفارقته للعالم، والواقع أن الفنان لا يحقق صورة نعقلها وإنما يقدم مماثلاً مادياً، يمكن لكل من أراد أن يدركه بمجرد أن ينظر إليه ويلفت له». التجارب لا تتطابق كذلك ومضات الجمال وحدوس التصوف ونشوات الذوق، كلها ضمن سياق خاص لا يمكن أن تخضع للنمذجة أو التطقيم أو التأبيد. في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2012 أقام الفنان يوسن رحمون معرضاً في رواق إيمان فارس الباريسي، المعرض جاء ضمن رؤية «الفن كممارسة صوفية» المعرض عنوانه «ذرّة»، وبه يسلط الفنان الضوء على الأبعاد الرمزية والدلالات الروحية لتلك الوحدة التي يتعذر تجزئتها وتتكوّن منها مادة عالمنا، يقول هذا الفنان: «كنتُ أبتكر تشييدات مجردة من دون أن أعلم ماذا تعني. كان الأشخاص المحيطون بي يقولون عني بأني مجنون، لكن والديّ أبديا احتراما ثابتاً لابتكاراتي ونظرا إليها كأشياء جميلة وغامضة». الفنون بما تنتجه من مبهر وجميل إنما تضعنا أمام استثناءات وجودية، فلا شيء يشعرك بأن في الوجود ما يبهج ويستحق العناء مثل تجلي الجميل، إنه «تجلي» كما هو عنوان كتاب هانز جورج غادامير «تجلي الجميل». www.shoqiran.net @shoqiran