لحظة الدهشة بين الحسّ وظهور الجميل من أعقد اللحظات التي يواجهها الناقد بغية فحصها أو شرحها، لحظة إدراك الجميل تخرج عن هيمنة المعنى، يغدو الجمال حسّاً محضاً، والحديث عن الجمال هو جزء من ظهوره وليس إنجازاً في تفسيره، بعض الجمال يتسلل خفيةً وبعضه حادّ يثير الارتباك. أدرك الفلاسفة غموض الجمال، حاولوا سبر أغواره وإدراك اشتراطاته، ازدادت صلابة البحوث المقاربة لمعنى الجمال والحكم عليه في القرن ال19، وبلغت الذروة في بحث الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط «نقد ملكة الحكم»، إذ يعتبر «كانط» الجمال هو ما يشعرنا بالرضا من دون أي مصلحة، وفي الثلث الأول من الكتاب رأى أن: «الحكم الجمالي يشبه الحكم المنطقي في كون أن من الممكن افتراضه صادقاً بالنسبة إلى الجميع... إن لكل إنسانٍ ذوقه الخاص، لأن هذا سيعني عندئذٍ أن الذوق غير موجودٍ بإطلاق، أي لا يوجد حكم جمالي يمكن أن يدّعي عن حقّ موافقة الجميع عليه». على رغم الفتوحات الفلسفية التي أضافها كتاب كانط حول «الحُكم»، سواء في الذوق أو الجميل أو الملائم، غير أن تفسيراته فتحت إشكالاتٍ تصدّى لها من بعده الفيلسوف الألماني هيغل، الذي أولى موضوع الجمال والفنون مساحةً كبيرة من مشروعه العتيد... بقي الجمال يكتنز غموضه في فرط وضوحه، كل تفسيرٍ للجمال هو دورانٌ في فضائه، من الصعب تفسير المظهر الجميل مادمنا نعتبره جميلاً، لأنه حينها يكون جزءاً من إدراكنا. حين نتحدّث عن الجميل إنما نتحدث عن اللحظة الكبرى بين الحسّ والظهور، وكلما كانت لحظة الجميل مباغتةً كانت أنكى في غزوها لوعينا. قد تسوق الأحكام على الجمال الخبرات الذاتية أو التصورات الوجودية. من الضروري استعادة كتاب «ما الجمالية» للمهتم بالجماليات والنظرية التطبيقية في السوربون الفرنسي مارك جيمينيز، الذي كتب سفراً ضخماً درس فيه معنى الجمال من حقبة التأثير الديكارتي، وصولاً إلى انعطاف تجليات الجميل في القرن ال20، مع الواقعية ومدرسة جورج لوكاش إلى أن ينتهي الكتاب في بابه الرابع ليبحث في صعقات فلسفات ما بعد الحداثة وتأثيرها على «الكليات» عموماً، وعلى الجماليات خصوصاً، في الكتاب يدرس المؤلف «غموض الجمال» وعلاقة إدراكه بالاستقلالية الذاتية. يزيد الكتاب من قوة معنى الجمال ونصاعة ضوئه، بينما تغيب الصورة يحضر الإدراك، غير أن المعنى يتشتت، يعيد الجمال غموض المعنى، ينتصر التفسير على المعايير، الجمال يتجاوز المعايير والشروط، شرط الجمال هو الجمال نفسه. إذا كانت «الموضات» قد فتتت الجمال الكلاسيكي الذي كان سائداً حتى أوائل القرن ال20، غير أن صرعات الأزياء وفنون تزيين الجسد، وانتشار ظواهر متعددة للتصرف في الجسد من التجميل إلى الوشوم، قد جعلت من موضوع جمال الجسد إشكاليّة كبرى سوف يتصدى لها الباحث الفرنسي جورج فيغاريلّو، الذي درس في كتابه «تاريخ الجمال - الجسد وفنّ التزيين من عصر النهضة الأوروبي إلى أيامنا»، يدرس ارتباط الجمال بالقيم، ومعاني التصرّف في الجسد بغية الزينة، وإذا كان الجسدُ موضوعاً جمالياً بطبيعته وبراءته الأساسية، فإن تحوّله إلى صيغة تدبير جمالي طارئ قد شوّه الجميل المعتاد الذي كان سائداً. دخلت الأزياء في مكائن التحوّل المستمر والتكرير، وأنتجت صرعات «الموضة» نماذج محتذاة، على مستوى العمليّات التجميلية للجسد، تلك النماذج التي صارت أمثلةً عليا لم تأتِ بشروط، بل جاءت نتيجةً لتحولات العالم، يتحوّل البشر في خلق نماذجهم الجماليّة على مستوى الصورة والجسد، الأمر الذي يجعل الجمال «طقماً» و«قالباً»، فانتشرت الأجساد المتشابهة في القرن ال21، بعد أن كان الجمال لحظة كبرى تأتي بغتةً بين مصادفة الحسّ وشرر الظهور. [email protected] @shoqiran