لو كنت أستاذاً في قسم السياسة بأية جامعة سعودية، لحثثت طلابي على القيام بدراسة عميقة لفهم نفسيات الناشطين والمتدينين السعوديين، وتنقلهم بين أحضان السياسة العربية في ارتحال قد يبدو في شكله العام مريضاً وغير مبرر أخلاقياً أبداً. فالارتحال الثقافي من أيديولوجيا إلى أيديولوجيا ليس جديداً ولا فكرة ممجوجة في الفكر الإنساني، بل هو أمر مقبول ومتفهم في عالم الأفكار والسياسة، ناهيك عن الإيمان بموقف سياسي ثابت. فتجد أن كثيراً من المؤمنين بأيديولوجيا معينة أياً كانت متطرفة أو أقل من ذلك، ينتقلون نحو مدارج مختلفة من الأيديولوجيا نفسها أو لأيديولوجيا مضادة. كل ذلك يحدث مع نضج التجربة، واتساع المعارف، أو حتى مع ارتباك المشهد والتباسه، وعدم القدرة على الحكم، واتخاذ القرار. لكن ما الذي يحدث في مشهدنا السعودي، ويدفع ناشطين ومثقفين ورجال دين نحو هذا الانتقال السريع، والتقلب من دون خجل بين أحضان سياسات وأيديولوجيات متناقضة على مدى العقود الماضية، بل إن بعضها كانت في متناول هجومهم وانتقادهم؟ وهل كان ذلك الارتحال حقيقياً أم مزيفاً؟ وحتى من دون مراعاة للمهل الفكرية التي يجب أن يخوضها الإنسان السوي، ولست أبالغ هنا عندما أصفه بأنه مشهد تعر ثقافي، تبارت فيه معظم التيارات حتى بانت سوءاتها الدقيقة. وإذا كان المشهد السعودي يبدو في نظرة أولى غير منوع كفاية لمن يشاهده من الخارج، إلا أنه ثري بتناقضاته عند الغوص في مفاصله، وصراعاته، وطريقة إدارة الصراع بين الأطياف، مرهونين بتلك الصراعات، وليس بالقناعات وتغيرها. هؤلاء السعوديون لا يتشابهون شكلاً ولا فكراً، ولا مضموناً، لكنهم متشابهون في انتقالاتهم الفكرية، فمن قومية عبدالناصر العروبي المضاد للفكر الأممي الإسلاموي، إلى أحضان صدام البعثي، عدو إيران وخصمها الشرس، لينتقلوا سريعاً إلى عمائم إيران وحزب الله، متناسين صدام وبوابته الشرقية، ومتوجين حسن نصر الله قائداً للممانعة وفارسها المبجل. ثم في سنوات أقل، بل ربما أشهر وأسابيع، قفزوا من أقصى يمين الشيعة إلى أقصى يمين السنة، متغنين بأسامة بن لادن، على رغم إجرامه في حق الإنسانية، والأوطان. وما إن أقبل الربيع العربي حتى خبأوا حياءهم مغادرين إلى حضن الإخوان المسلمين ومتحدثين باسمهم، ومدافعين عن مشروعهم الأممي، المعاكس تماماً للعروبة القومية، والبعث القُطري، والسلفية الجهادية. بالتأكيد هناك شرفاء بقوا على مواقفهم لم يتزحزحوا عنها، أو أنهم ارتحلوا ضمن سياق مقبول، ومبرر فكري وسياسي، أما هذا الانتقال على حبال السياسة والأيديولوجيا حيثما يرسو الهوى، فله أسبابه السعودية الخالصة. أولها: الخصومة مع السياسي، وظنهم أن تلك الخصومة تبرر لهم مناكفته بالذهاب لكل كاره أو معاد له. وثانيها: هشاشة المرجعية الثقافية وضعف المخزون المعرفي، فالقافزون ليسوا سوى إمعات في المشهد السياسي والفكري السعودي، وبالتالي فإن ذلك الانتقال والتغير في أفكارهم هو حال من حالات الدهشة والانبهار. ثالثها: أن البعض لديه كثير من أحلام رومانسية قديمة يخبئها في وجدانه، ويعتقد أن أفكاراً، أو أشخاصاً كابن لادن أو نصر الله، أو مرسي أو أردوغان، هي وهم من سيحقق أحلامه أو تعيد له ما فقده، فهو يقاتل بيد غيره. ولذلك كله فإنني أدعوكم للانتظار معي، نفس الإمعات والأيتام من الناشطين والإسلامويين، الذين وقفوا طويلاً أمام أبواب الإخوان المسلمين، وكل أبواب من كان قبلهم، يبحثون الآن عن صدر سياسي جديد لديه مميزات المماحكة نفسها، ليتملقوه ويرتموا في أحضانه. [email protected] @dad6176