أحيا الإغلاق غير المسبوق ل 19سفارة أميركية نتيجة اعتراض الاتصالات التي يقال إنها أظهرت تخطيط قادة «القاعدة» لتنفيذ عمليات كبرى ضد أهداف أميركية، النقاشات السابقة حول ما إذا كانت المنظمة الإرهابية ماتت فعلاً أم أنها باتت أقوى. ليس هذا هو السؤال الصحيح الذي ينبغي طرحه بل إنه يتجنب ما الذي ينبغي فعله في الشرق الأوسط لإضعاف «القاعدة». الهجمات الإرهابية التي تشنها «القاعدة» هي جانب واحد فقط من أهدافها الاستعراضية. تأمل المنظمة بقيادة حركة جماهيرية من المسلمين نحو مفهومها للجهاد. بيد أن مشكلتها تكمن في قلة عدد المسلمين الذين يأبهون لأيديولوجيتها المتصلبة والظلامية والمتطرفة. ازدهرت «القاعدة» في فترات الحرب وارتفاع التوتر، في «الحرب على الإرهاب» بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) أو في السنوات الأولى التي أعقبت احتلال العراق، عندما كان يسعها أن تقدم نفسها على أنها الحامل النموذجي لجدول أعمال يخص المسلمين. فجاجة المرحلة الأولى من الخطاب الأميركي في «الحرب العالمية على الإرهاب» صبّت في مصلحة «القاعدة». جنت الحركة الجهادية فوائد ضخمة من الخلط بين رؤاها الهامشية ورؤى تعتنقها منظمات أكبر وأكثر شعبية، تنتمي إلى الخط الإسلامي العريض، على غرار «الإخوان المسلمين» أو حتى بينها وبين الإسلام. وباشرت واشنطن تحسين مواجهاتها ل «القاعدة» في الأعوام الأخيرة من إدارة الرئيس جورج بوش: بدأت تدرك الفوارق داخل العالم الإسلامي وتتوسلها لحرمان «القاعدة» من غطائها الإسلامي العريض. وقدمت الانتفاضات العربية المبكرة لمحة للكيفية المحددة التي يمكن أن تؤدي إلى إلحاق الهزيمة ب «القاعدة». ولم تترك الانتفاضات الشعبية الناجحة ضد الأنظمة العلمانية التسلطية، سوى حيز ضيق لمن يمكن أن يشكلوا طليعة ثورية. وتعين النظر إلى الإسلاميين من كل الاتجاهات الذين شاركوا في تلك الانتفاضات كصفعة لادعاءات «القاعدة» تزعّم المسلمين. وفيما حاول أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وكثرٌ من الكتاب السلفيين - الجهاديين ادعاء الشجاعة، بذلت «القاعدة» جهداً خارقاً لتبرير مواقفها في الأيام الأولى من الانتفاضات العربية. لو أسفرت الثورات عن حكومات انتقالية ديموقراطية، لكانت الضربة التي ستوجه إلى «القاعدة» قاضية. وكان أعضاؤها سيبقون ملتزمين القضية، وربما يشنون هجمات في مناسبات معينة، لكن عجزها عن تجنيد الأعضاء الجدد كان سيتزايد، كذلك الأمر بالنسبة إلى نشر أفكارها بين القطاعات الواسعة من السكان. بيد أن الانتقال لم يسر في الاتجاه هذا. وتنقلت مصر من كارثة إلى أخرى، وتصارعت الدولة الليبية لتعزيز سلطتها في وجه الميليشيات القوية. حتى تونس وقعت ضحية استقطاب عميق بين العلمانيين والإسلاميين. وضعف الأداء الحكومي والمؤسسات الهزيلة أتاحت لمناصري التطرف إعادة تجميع صفوفهم والاضطلاع بأدوار عامة جديدة في بلدان مثل اليمن وليبيا وتونس. فوق ذلك كله، سمحت سورية ل «القاعدة» بأداء دور كبير في قلب خطوط القتال الجديدة في المنطقة، وهو بالضبط ما مُنِعَت المنظمة منه في الانتفاضات الشعبية أوائل 2011. لذلك، شكل فشل أكثر الانتفاضات العربية هدية استثنائية ل «القاعدة». فاستعادت فاعلية ذرائعها، فيما أتاح لها تشتت أو تفكك أجهزة أمن الدولة مزيداً من المجال للعمل. ورفع التحول إلى التمرد المسلح في سورية، حرارة جهادها العالمي الذي كان في طور الأفول. وأضعف السقوط المشهدي ل «الإخوان المسلمين» أقوى منافسيها الإسلاميين. وعثرت على فرص لا سابق لها لموضعة نفسها في السياسات العربية الجديدة العاصفة والشديدة الحيوية. ولكن، لا تنبغي المبالغة في عودة الحياة إلى «القاعدة»، على رغم أنها كانت أمراً يمكن تجنبه. وعند نزع قناع القضايا الشعبية العامة عنها، تظل حركة هامشية قليلة الجاذبية بالنسبة إلى الجمهور العربي والمسلم العريض. وتعرّض داخل «القاعدة» إلى ضربات قاسية وأصيب بالدمار، وهي تضم حالياً فروعاً محلية شديدة التباين بين بعضها بعضاً، إضافة إلى عدد من «الذئاب الوحيدة» التي لا يمكن التكهّن بسلوكها. ولا تجوز العودة إلى السياسة (الأميركية) في الشرق الأوسط التي بُنيت حول مقارعة التطرف العنيف، أو إلى الخطابة غير المجدية عن «الحرب العالمية على الإرهاب». فالرد على تحدي «القاعدة» الجديد يجب أن يكون تجديد الالتزام بمواجهة كل التحديات العاجلة التي أتاحت للمنظمة العودة إلى الميدان السياسي. وفيما يستحوذ اليمن وليبيا على جل الاهتمام في النقاش الأميركي حول عودة «القاعدة»، فإن الفوضى في مصر وسورية كانت القوة العظمى في تنشيطها. ولعل الانقلاب العسكري في مصر قضى ولجيل مقبل من الزمن، على الفكرة القائلة إن بإمكان الإسلاميين تحقيق آمالهم من خلال المشاركة الديموقراطية. حتى قبل الانقلاب فإن تجربة «الإخوان» الكارثية في السلطة، زرعت المرارة عند كثر من العرب ذوي التوجه الإسلامي، حيال الديموقراطية. وتبدو الإدانات الجهادية لخواء الوعود الديموقراطية تكتب نفسها بنفسها الآن. وعلينا أن نضع كأولوية إصلاح الأنظمة السياسية المحطمة التي سمحت ل «القاعدة» بالعودة. ومساعدة مصر في تحقيق الاستقرار والعثور على حل سياسي في سورية، سيقدّمان الكثير لإضعاف التهديد الإرهابي. كذلك الأمر بالنسبة إلى تحقيق الاستقرار في ليبيا وإنجاز الانتقال في اليمن، وفتح السياسة العراقية أمام المشاركة وإبقاء إسلاميي المنطقة في قلب العملية السياسية. لا شيء من هذه الخطوات سيمنع «القاعدة» من التخطيط لهجمات إرهابية، لكنها ستساعد في تجميد آمال المنظمة بقيادة العالم الإسلامي. * أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، عن «فورين بوليسي» الأميركية، 12/8/2013، إعداد حسام عيتاني