بعد رحلة طويلة في مضمار الكتابة، وعقب معارك صاخبة في ميادين السياسة والأدب، يرفع الروائي المصري شريف حتاتة، وقد بلغ التسعين، لواء الهدوء والسكينة مستسلماً لكسل الحياة، ومتفرغاً للتأمل في تعقيداتها وألغازها، كما يتجلى في روايته الجديدة «رقصة أخيرة قبل الموت» (مركز المحروسة، القاهرة - 2013). تحيل الرواية، للوهلة الأولى، إلى أعمال أدبية عالجت تلك العلاقة الشائكة بين شابة ورجل طاعن في السنّ. ومثل هذه العلاقة وجدت طريقها إلى الفنون المختلفة، ومنها، بالطبع، الرواية التي سعت إلى تفسير تلك الكيمياء المعقدة التي تربط بين رجال طاعنين في السن، وبين نساء يافعات. ولعلّ الرواية الأشهر التي ترد إلى الذهن في هذا السياق هي «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف، التي تناولت هذا الهوس لدى رجال خذلتهم أجسادهم، فوجدوا في الجسد الفتيّ الفاتن تعويضاً مبهماً من أجل إرواء ظمأ لا سبيل إليه. أمرٌ مماثل يرد في رواية «بيت الحسناوات النائمات» للياباني ياسوناري كاواباتا، إذ نرى رجالاً بلغوا من العمر عتياً، يرتادون نادياً أو نُزُلاً للتفرّج على أجساد النساء الغضّة. ولكن، ممنوع عليهم الإتيان بأي حركة قد ترمز إلى الشبق الخامد، بما في ذلك اللمس العابر، في اختبار استثنائي للغرائز الذابلة تحت وطأة الزمن الثقيل. ومع أنّ رواية حتاتة تنطوي على بعض من هذه الهواجس، غير أننا سرعان ما نكتشف أن ذلك لا يمثل متن الرواية. فالرغبات التي هرمت مع صاحبها، ليست سوى خلفية هامشية لرواية تذهب في اتجاه مختلف، لتلامس مشاغل رجل «سئم تكاليف الحياة»، وفق معلّقة زهير بن أبي سلمى، وراح ينحت صدأ الوقت بحثاً عن فسحة حانية، هانئة وسط رتابة الأيام. «رقصة أخيرة...»، بهذا المعنى، تنهمك بالبعد الإنساني الصرف، المنزّه عن النزوات الطارئة في أواخر العمر، لتتناول هموم أو بمعنى آخر شجون وتأملات وذكريات رجل خبر دروب الحياة ودهاليزها، ومرّ بمحطات لا تحصى، وها هو الآن يمارس ما يشبه «استراحة المحارب» ليطلّ من علوّ العمر الشاهق، إلى تفاصيل ووقائع وأحداث وتحولات كثيرة غفت بين دفاتر العمر. يتأملها ويقرأها بهدوء وصفاء، ثم يربطها بتفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها الآن، تلك التفاصيل البسيطة التي تكتسب قيمة خاصة في حياة رجل لا يأبه بالرحيل الوشيك ما دام يستثمر كل لحظة من وقته، ولم يزل قادراً على التمتّع بجماليات الحياة ومباهجها، القليلة، على أي حال، ليس بالنسبة إلى بطل الرواية فحسب، بل إلى شرائح واسعة تعيش في مدينة صاخبة ومزدحمة كالقاهرة. على أنّ هذا التوصيف، بدوره، لا يحوّل الرواية إلى بحث في «المأزق الوجودي»، فبطل الرواية عزت المرشدي، هو مثقف وروائي يعيش في عزلة اختيارية. هو متصالح مع ذاته، ومتآلف مع إيقاع الحياة من حوله من دون تأفف، إلى أن يتلقى اتصالاً هاتفياً من فتاة تبدي إعجاباً بروايته «المصيدة»، وهي في الواقع مصيدة من كلمات ومفردات وتعابير تنجح في جذب الفتاة القارئة إلى عوالم المرشدي. يدور بينهما نقاش حول الرواية وقضايا أخرى ثم تتوطد العلاقة لتنتهي بالزواج، على رغم الكثير من العراقيل والعقبات والانتقادات المعلنة والخفية التي تتندر بزواج غير متكافئ بين شيخ مسن، وامرأة لم تبلغ بعد نصف عمره. نكتشف، لاحقاً، أن الزوجة أمنية مروان تتحدّر من أصول ريفية بسيطة، قاست كثيراً في طفولتها ويفاعتها، ومارست أعمالاً مضنية في الحقول والغيطان، وهي قررت أن تهجر كل هذا البؤس لتبحث عن ذاتها الأخرى في فضاء القاهرة، المدينة التي تحطم الكثير من الأحلام، لكنّها تحتفي كذلك بالمثابر والمجتهد. بدت أمنية امرأة قوية الشخصية، واستطاعت أن تتجاوز الكثير من التابوات إلى أن أصبحت «زوجة رجل مهم». ولكن، مهلاً، هي ليست «ضلعاً قاصراً»، بل تمكنت من إثبات جدارة في النقد والإخراج، ومن ثم حصلت على درجة علمية عالية، وكأنها أرادت بذلك أن تخرج من معطف الرجل الشهير لتبرهن أن اقترانها به جاء نتيجة إعجاب غامض متبادل ولأسباب لها علاقة ب «الارتياح العاطفي» فحسب، فتغدو شهرة الكاتب في سياق زواج من هذا القبيل مجرد تفصيل لا قيمة له، كما ذهبت بعض التفسيرات الخبيثة! علاوة على ذلك، فإنّ السرد الذي يرويه عزت المرشدي لا يسعى إلى تبرير زواج من هذا النوع، بل إن صفحات الرواية تكشف عن أن عزت وأمنية يتقاسمان الكثير من الأحلام والتطلعات والاهتمامات المشتركة، وهذا هو السبب في التقارب بينهما، لا رغبات الجسد التي قرأنا عنها في أعمال روائية أخرى. هموم صغيرة ترصد الرواية الاهتمامات الصغيرة لعزت المرشدي، تصغي إلى أحلامه المجهضة وتوثّق محطات كثيرة في مسيرته الحافلة، وبالتوازي مع الحديث عن مشاغل الحياة اليومية، نعود مع بطل الرواية إلى أمكنة بعيدة تركت أثراً عميقاً في نفسه. نعود معه إلى قريته النائية وإلى منزل أجداده وأسلافه، ونصغي إلى قصص العمال الذين كانوا يعملون في الحقول، بل نتعرف إلى أولاد هذه الطبقة الكادحة وطريقة تفكيرها في تأمين لقمة العيش ونظرتها للتعليم، ونتجول معه أيضاً في شوارع المدينة التي احتضنت مراهقته وصباه، ونراقبه وهو يمارس رياضة متأخرة بجسد لا يرضى الاستسلام، على رغم الأمراض والمتاعب الصحية. لا يبتدع حتاتة أية بطولات خارقة كي ينسبها إلى بطله. هو يرافقه هنا وهناك، ويستمع بهدوء إلى الأصوات الخافتة التي شكلت عالمه الصغير، ويستسلم لمسار الوقائع كشيخ وقور يستجيب، بلا تأفف، لنداء الماضي. وفي إزاء هذا السرد البسيط، وكذلك الحديث عن الاعتداء الإسرائيلي على غزة، ومشاركة البطل ذاته في ثورة 25 يناير، ستكون أمنية هي دائماً الواحة الغنّاء لرجل بلغ «الأرض اليباب»، وهو على بعد مسافة قصيرة من المحطة الأخيرة. من هنا، جاء عنوان الرواية التي استلهمها الكاتب من مشاركة بطله في حفلة زفاف إحدى القريبات. لقد أطلق العنان لجسده المنهك، فراح يتلوى ويرقص في حبور وسعادة بالغين، وكأنّ هذه الرقصة هي بمثابة مكافأة أخيرة لن تقيض له ثانية، حتى هو نفسه استغرب من الطاقة الخفية التي كانت تسانده في حركاته الرشيقة، فنال رضى الذات قبل أن يستحوذ على إعجاب المدعوين في الحفلة. عزت المرشدي يعي حقيقة الإنسان، ويعرف أن الموت بات وشيكاً، غير أن هذا الشعور لا يحبط همته، بل يكاد يحفزه على استثمار كل لحظة من عمره. يتصرف كحكيم خبر لوعة الحياة، فيمضي في قطف مباهجها كما لو أنّ الحياة أبدية على هذه الأرض، ويرتّب للنهاية كما لو أنها ستأتي مع شمس الغد. لذلك، هو لا يتورع عن التفكير في اختيار قبره، إذ يتفق مع المعنيين في هذا الشأن ويشتري قبراً سيضم رفاته إلى الأبد، ثم يلتفت ليعانق الحياة من دون أن يشغل اهتمامه ذلك القدر المحتوم. هنا أيضاً لا يثقل حتاتة نصه بتلك النظريات الفلسفية، ولا يورّط بطله في جدلية الحياة والموت، بل يقدم لمحات خفيفة تخفق في إعاقة سلاسة السرد.