في المرحلة الفاصلة بين السلم الملتبس والاقتتال الصريح، هناك صالة انتظار فيها أناس تترقب وترصد وتحاول التأقلم مع وطأة هذا الجمود وعفونته. بين هؤلاء المنتظرين، رئيس حكومة مكلّف ينتظر تشكيل حكومته، ومجلس نواب ممدّد له قانون إعادة انتخابه. وإلى جانبهم، مساجين ما زالوا ينتظرون محاكمتهم، وعمال ينتظرون إقرار سلسلتهم. وعلى الأرض، قبع لاجئون ينتظرون انتهاء محنتهم، ويمررون الوقت بين حملة عنصرية من رئيس بلدية وتدقيق بالهوية من مذيعة موتورة. وبغية بعض التجديد، يستبدل بعضهم هدف الانتظار من دون تغيير اللعبة التي هم محكومون بها، فتأخذ الثورة السورية مكان المحكمة الدولية كعنوان للخلاص المرجو، والنفط محل السياح الذين سئم الاقتصاد اللبناني انتظارهم. في لحظات الوعي النادرة، يتساءل بعضهم لماذا باتوا محتجزين في هذه الغرفة، محكومين بالانتظار؟ فتنشب موجات سخط واتهامات، وتتذكر الطوائف بعضها وتلوم غيرها على ما آلت إليه الأوضاع. فلو يسلّم الآخر سلاحه، لفُتح باب الصالة وانتهت مرحلة الانتظار. يرد الآخر بأنّ سلاحه لا دخل له بالانتظار، فهذا الواقع جزء من عملية أكبر، وباقي القابعين في هذه الغرفة متخاذلون. أما الفرد المعزول في زاويته فينتظر موعد تقديم طلب التأشيرة للهجرة، وفرصته الوحيدة إقناع موظف السفارة بأنّه وُضع في هذه الغرفة خطأ، مع تقديم ملفه المترجم والمصدّق بثلاث نسخ ليبرهن عن حبّه القديم لبلده الجديد. وبعد أنّ يخف السخط بعض الشيء، يعود الجميع إلى الانتظار، ريثما يحدث شيء، أي شيء، يكسر لبعض الوقت وطأة الانتظار، مدمناً «الخبر العاجل» الذي يواكب ليل من تهرأت جفونه. ففي غرفة الانتظار، كما كتب أحدهم، لا نوم، مجرّد تأمل للنوم. ومع طول الانتظار، بدأت تتطور بين الجماعات المنتظرة طقوس للتكيف مع مصيرها. فهناك مجموعة، لخبرتها المكتسبة من غرفة الانتظار الأولى أو من غرف انتظار وهمية، فقدت أي أمل بما سيأتي بعد الانتظار، وباتت تملأ الفراغ بندب متواصل للأوضاع التي انتهت إليها البلاد. وتستيقظ عند كل حادثة لتذكّر الجميع بأنّ صالة الانتظار عقاب مستحقّ لمجتمع مريض. فمن جريمة كترمايا والقانون الأرثوذكسي إلى فضيحة ميشال سماحة، وصولاً إلى الجريمة الأخيرة في بيصور، ورقة النعي ذاتها يطلقها بعضهم لشركائهم في الغرفة الذين يوافقونهم الرأي ولكن دائماً مع «ولكن...». يغضب أرباب الندب ويكبّرون الحجر. جريمة بيصور، يقولون، استكمال لمسيرة تفكك المجتمع تحت وطأة القوقعة الطائفية، كما أنّها إشارة إلى تلاعب السياسيين بمشاعر شعبهم وغرائزه، فضلاً عن علاقتها بالتقاليد الذكورية والعقلية التقليدية التي يلتقي عليها الخصوم، على رغم اختلافاتهم السياسية. كلام صحيح، يرد نائب المنطقة في الغرفة، ولكن... كل شهر، يهبّ شبان وصبايا ولدوا في صالة الانتظار لينتفضوا على جيرانهم وآبائهم المتشائمين. يتسلّقون كرسياً وينظرون من خلال النافذة إلى ما يجري في الخارج. يرون شعوباً منتفضة، وهم من تربّى على استحالة حدث كهذا في منطقتنا. يقررون استنساخ هذا المشهد الذي قد يكسر جدران صالة الانتظار وينقل سكانها إلى ربوع الثورات الدائمة. فمن «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي» إلى تظاهرات اسطنبول وصولاً إلى «الشعب يريد الجيش»، مروراً باستنساخ الثورة السورية، يعاد تمثيل التاريخ القصير للثورات العربية في الصالة أمام جمهور ضجر، ينظر ببعض المحبة الى أولئك الغاضبين الذين ما زالوا يؤمنون بأنّ هناك مخرجاً من الغرفة. وبعد العرض، يعود الجميع إلى الانتظار. غير أن الانتظار هدّام. فمع كل إعادة للأسطوانة ذاتها، ينثلم الغطاء الركيك الذي يفصل المنتظرين عن حالة العنف المطلق. فلأسباب يجهلها الجميع، تشوب سكان الصالة فورات من الغضب والعنف تجعل عمليات الاغتيال السياسي علامة على تحديث فقده أصحاب الغرفة. ففي زاويتها الشمالية، رجل يقتل امرأة ضرباً، وإلى جانبه رجل مات تحت ضربات العصي. وعلى الحائط المقابل، عائلات تختلف مع بعضها في الليل، وتتقاذف صواريخ وتتخاطف بعضها بعضاً. وكادت أن تشتعل غرفة الانتظار لو لم يرزق «أبو رياح» بمولود ذكر، وهي عادت واشتعلت لنتائج الامتحانات الرسمية. ومن وقت إلى آخر، تأتي جريمة نوعية، فيحبس أبناء هذه الغرفة أنفاسهم ريثما تتغير قوانين الانتظار بعض الشيء، ليتبين لاحقاً أنّها مجرّد عملية غرامية، لم تصلح لأكثر من تمرير بعض الدقائق من خلال التلذذ بالتفاصيل الدموية. ففي هذه الغرفة، ذوّب الانتظار الفارق بين السياسي وغير السياسي، العنفي والسلمي، الصح والخطأ. وإذا كان الوقت كفيلاً بشفاء كل الجروح، فالانتظار كفيل بفتحها كلها. وفي زاوية غرفة الانتظار، شاشة تلفزيون واحدة تساعد في تقطيع الوقت الضائع. غير أنّها لم تعد تبث، إلى جانب خطابات عفنة لزعيم مقاوم، إلاّ صور العنف المستقاة من أرشيف يتزايد كل يوم عن تقنيات متطورة للقتل والتعذيب. وحول هذا التلفاز، شبان يرون تقطيع الرؤوس وخلع الأشلاء وقبر البشر، ليعودوا وينظروا بعضهم الى بعض ويتخيّلوا ماذا سيفعلون عندما ينهار آخر الحواجز الأخلاقية. جريمة بيصور، في هذا الوقت المجمّد، جاءت مبكرة ومتأخرة في آن، مبكرة لأنّ هناك بعض الأعضاء يجب قطعها قبل بتر العضو، لكنها متأخرة في غرفة بات مقبولاً فيها أن يقتل إنسان كل يوم حتى من دون أن ترفّ الأعين التي بلا جفون. فلماذا هذا الاستنكار المصطنع، يسأل الشاب وهو يأخذ صورته التذكارية إلى جانب العضو المبتور، فينهار بالبكاء عقلاء الوطن وفنانوه المنتفخون ويتذكرون صورة لبنان الأصلية. ولكن، لا دموع لمن ليست له جفون، إلاّ دموع التماسيح التي بدأت تفيض في نهر بيروت الأحمر. قد تكون وظيفة غرفة الانتظار أنّ تقدم رواية تطمينية إلى أنّ الانتظار ليس حرباً على الأقل. غير أنّ رواية مزيفة كهذه يكشفها عادةً مجنون القرية الذي يهزأ منه الجميع ومن حقيقته. ومجنون الضيعة فقد أعصابه من شدّة الانتظار، وبات يصرخ ويهدّد بالتوجه إلى ساحة الأمويين وإطلاق الرصاص على رأسه إذا لم يوضع حد لجحيم انتظاره. أخطأ من قرأ رسائل «بوعزيزي الممانعة» وكأنّها مجرّد فضح لحقيقة الصحافة في لبنان، فخطوته أكبر من ذلك. وقد تكون الرد الوحيد المنطقي لحالة عبثية جعلت الحرب المفتوحة قدراً أفضل من حالة الانتظار هذه.