من الصعب التقدير كم تبلغ نسبة اللبنانيين الذين يدركون أن بساط بلادهم، يسحب من تحت أقدامهم فيما هم يتراجعون إلى الوراء. كذلك من الصعب التقدير كم تبلغ نسبة اللبنانيين الذين يدركون ويتصدون، وما هي حدود قدرتهم على الصمود أمام أزمتهم في الداخل، وأمام طغيان فوضى داخلية، وحروب طائفية ومذهبية في الجوار الإقليمي مع غياب مرجعيات دولية كانت لها في ما مضى هيبة واحترام، وكان للبنان أمل بأن يعوّل عليها. ثمّة مثل شعبي ينطبق على لبنان في حاله هذه: وطن واقع بين شاقوفين. والشاقوف هو المطرقة الحديد الضخمة التي تحطم الصخور الصلدة. لم يبق لبنان صامداً حتى الآن بسبب صلادة صخرته. ذلك أن الصخرة التي تعمّر منها أول حصن في لبنان أخذت تتفتت منذ أن اختلف البناؤون على حصصهم منها، تارة بالقوة، وتارة بادعاء الحق الإلهي، وتارة بالرياء، أو بالسرقة، أو بالتسلط، أو بالخيانة. ووراء كل ذلك طمع بالنفوذ أو طلب الحماية من «الآخر» اللبناني أو العربي أو الأجنبي. وطن كان قدساً لحرية الذين يعرفون معنى الحرية، ويعملون بشروطها، ولا يتخطون حدودها. من تلك النبتة التي تولد مع الإنسان في روحه، وفي قلبه، تعلّم اللبنانيون سبل العيش في محيطهم الإنساني واندمجوا في حياته كعرب، متميزين بالذكاء، والطموح، والنشاط في طلب العلم، والثقافة، والتقدم. وقد نجحوا باختراق البحار إلى أقاصي الأرض، وأسسوا، حيث حلّوا، «لبنانهم». تلك كانت صورة للبنان وصارت تذكاراً قد يفيد للتأمل واستجلاب الحسرة. ومن يكتفي بالحلم لاستعادة ذلك اللبنان من خارج دولي قريب، أو بعيد، ما هو إلا سابح في خيال. واقع لبنان اليوم هو هذا الذي يعيشه أهله الذين لا يزالون يقيمون فيه، وهم فرقاء، وكل فريق منقسم فريقين، وأكثر. بعضهم سعيد في ما هو عليه، وبعض آخر بائس. بعض خائف وقلق، وبعض على أمل بالفرج. لكن، ولا عاقل يمكنه أن يتصور أن هذا الوطن الأعجوبة، بوجوده وباستمراره، قد يختفي اسمه على خريطة الدول. كلام من هذا النوع، قد يفيد تكراره أمام مشهد اختصار الدولة، والمؤسسات والإدارات، خصوصاً تلك التي لها صلة ومسؤولية مباشرة مع الناس، ومع حقوقهم البسيطة التي لم تعد تتجاوز حدود الخبز، والدواء، والنور، والشعور بالأمان. لكن، لماذا وصلنا إلى هنا؟ لماذا؟. فقط لأن لبنان فقد قراره كدولة تقوم على دستور، وميثاق وطني، وعلى مؤسسات منتخبة بحرية وديموقراطية، ومستندة إلى معاهدات دولية وإقليمية تكفلها شرعة الأممالمتحدة. هذا أيضاً كلام من حواضر المواثيق الدولية، لكنه من لزوميات بقاء لبنان كياناً ودولة لها قرار. لم يفقد لبنان قراره في الأمس القريب. فمنذ زمن طويل خرج قرار لبنان من يد دولته ولم يعد بعد. ويبدو من الصعوبة بمكان أن يعود في المستقبل القريب. لقد سقط قرار لبنان منذ أن تزاحمت الرايات في فضائه. كل راية كانت تنازع لتعلو فوق كل ما حولها من رايات... وحدها الراية اللبنانية ظلّت متواضعة باعتبارها هي المضيافة. وكثيراً ما توارت واختفت. كثر هم الذين استظلوا الراية اللبنانية، ولا يزالون، وكثر من اللبنانيين استظلوا رايات الآخرين، وكلها رايات تعلن الثورة من أجل المقاومة. والمقاومة لا تعني إلا الحرب من أجل فلسطين. وها إن العالم العربي ينسى فلسطين ليتحول إلى القتال بين أهله، من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت، ومن شرفة إلى شرفة. فإلى أين، وفي أي اتجاه يتطلع اللبناني، وأمامه سورية وقد تحولت كرة نار وركام تراب ورماد. وفي العراق همجيات تحاكي همجيات في بلاد الشام، فيما صيحات التكبير تتعالى، وبعدها المدافع، والبراميل المتفجرة، والعبوات المتناثرة دماء وأرواحاً وعويلاً. هكذا، لا رؤية لمستقبل لبنان ما دامت الحرب في سورية مشتعلة، وما دامت الخرائط مفتوحة وعليها خطوط ترسم، وتعدّل، وتشطب مربعات ومستطيلات إنسانية ذات هوية واحدة، وعقيدة واحدة، وثقافات متنوعة، وكأن الثقافة هي العلّة. لا يعرف اللبنانيون على ماذا يستقر رأيهم في مسألة خلاص وطنهم. كان لبنان المستقل قد قام على صيغة الميثاق الوطني. وكانت في وقتها، صيغة دستورية فريدة من نوعها بين دساتير دول العالم العربي. فجميع هذه الدول كانت، ولا تزال، ذات أغلبية إسلامية، أما لبنان فكانت ميزته، ولا تزال، إنه مؤلف ومتآلف من مجموعة أديان وعقائد كلها سموية. ويشهد التاريخ الحديث الذي سطره الآباء الأوائل للاستقلال أن مسلماً سنياً من طرابلس هو الشيخ محمد الجسر، كاد يكون رئيساً للجمهورية اللبنانية. لقد برع هؤلاء الآباء القدامى للاستقلال بابتكار الجمل المفيدة لصوغ الميثاق الوطني، فكانت تلك العبارة التي تنصّ على مبدأ المساواة بين اللبنانيين في تسلّم المناصب الرسمية، ثم كان الاتفاق المسمى «غير المكتوب» الذي نصّ على أن رئاسة الجمهورية للموارنة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة، ورئاسة الحكومة للسنّة وكل ذلك «بصورة موقتة». ولزمن طويل لم تكن الشكوى من رئيس الجمهورية لأنه ماروني، أو من رئيس مجلس النواب لأنه شيعي، أو من رئيس الحكومة لأنه سني. الشكوى كانت، ولا تزال، من سوء استعمال السلطة والحكم؛ والشكوى من التسلط، والاستئثار والفساد، وتسخير حقوق الناس والدولة لخدمة المتناوبين على السلطة. يعرف اللبنانيون، وعليهم أن يعترفوا، بأن دولتهم الآن مقسمة، ومجزأة، وموزعة، منافع ووظائف على طوائف، وعلى مناطق. ويعرف الرؤساء والوزراء والنواب الحاليون والسابقون، ويعترفون بأن توزيع خيرات الدولة بين الطوائف والمناطق، غير منصف. بل أن هناك ظلماً وحرماناً وإهمالاً يعمّ مناطق باتت في خانة النسيان. لكن، كل ذلك الظلم والحرمان والإهمال لا حساب له الآن. فالحساب هو أن تبقى للبنان دولة، وأن تستعيد الدولة قرارها. وهذا صعب، صعب، فقرار لبنان صار مشتتاً في الداخل، وفي الخارج. لم يعد قرار لبنان احتكاراً للنظام السوري. إنه موزع بين بيروت، ودمشق، والرياض، والقاهرة، وبغداد، وطهران، وأنقره، عبوراً إلى أوروبا وأميركا، فإسرائيل. في منتصف الستينات من القرن الماضي، انطلق سهم من قرية لبنانية جنوبية متاخمة للحدود مع الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. كان السهم نارياً من صنع نازح فلسطيني أراد أن يبعث برسالة متفجرة إلى منطقة قريبة من مواقع العدو الإسرائيلي. لكن ذلك السهم الذي سمي (صاروخاً) سقط على بعد أمتار قليلة خارج الحدود اللبنانية. ولم يترك أثراً. كان معد السهم ومطلقه شاباً فلسطينياً يدعى جلال كعوش. ولم تمض ساعات حتى أطبق «المكتب الثاني» في الجيش اللبناني على كعوش بجرم تهديد سلامة الدولة والبلاد. ولأن ذلك الحادث السخيف كان نادراً في ذلك الزمن، فقد تلقى الشاب الفلسطيني ضرباً مبرحاً أدى إلى وفاته بين أيدي العسكريين، فقامت التظاهرات الشعبية، والطلابية في بيروت والمدن اللبنانية الكبرى؛ استنكاراً للجريمة، ودفاعاً عن حق الفلسطيني في مقاومة إسرائيل، من أي مكان في لبنان، والعالم العربي. ويومها عمّت عرائض الاحتجاج والتنديد كل وسائل الإعلام اللبنانية والعربية، وأبرزها كانت عريضة أساتذة الجامعة الأميركية التي تناقلتها الصحافة العالمية. لم يكن ممكناً للدولة اللبنانية أن تبرر الجريمة التي وصفتها بأنها غير مقصودة وغير متعمدة، إنما هي حادث. لكن صحافياً ذهب إلى الرئيس فؤاد شهاب الذي كان قد غادر قصر الرئاسة إلى منزله في جونيه بعد انتهاء ولايته. وسأل الصحافي الرئيس شهاب: هل إن ما حدث معقول أو مبرر؟ يومها قال فؤاد شهاب للصحافي جواباً لم يكن للنشر: «إنها مصيبة. لكن غير مسموح لابن كعوش أن يتخذ قراراً بمهاجمة إسرائيل من داخل الأراضي اللبنانية، لأنه لن يكون مسؤولاً عن عواقب قراره على لبنان». * كاتب وصحافي لبناني