لم يعرف التاريخ القديم والحديث سابقة سياسية تحاكي السابقة التي طرحها الأسبوع الماضي الفريق أول عبدالفتاح السيسي. فقد طلب من تسعين مليون مصري الاحتشاد في شوارع القاهرة والإسكندرية والمدن الأخرى، بهدف التصدي لخطر «الإرهاب» الذي يمثله الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعة «الإخوان المسلمين». وقال السيسي في تبرير دعوته المثيرة للجدل والخلاف، إنه لا بد من نزول كل المصريين الشرفاء، الأمناء، يوم الجمعة ليعطوني تفويضاً وأمراً لمواجهة العنف والإرهاب. وردت عليه جماعة «الإخوان المسلمين» في بيان مقتضب، دعت فيه إلى التظاهر يوم الجمعة أيضاً، معتبرة دعوة وزير الدفاع بأنها إعلان صريح لإشعال حرب أهلية. مرشد عام الجماعة، محمد بديع، استغل هذا الشهر الفضيل لينفخ في صدور الصائمين مشاعر التحدي والرفض، متهماً السيسي باقتراف جريمة لا تُغتَفر. ووصفه بأنه كمَنْ حمل معولاً وهدم به الكعبة المشرفة حجراً حجراً. وكان واضحاً من طبيعة الصورة الاستفزازية التي رسمها أن بديع يسعى إلى تحريض أنصاره على استخدام العنف سلاحاً ضاغطاً للإفراج عن الرئيس المعزول والمخفي منذ ثلاثة أسابيع محمد مرسي. بخلاف هذا الأسلوب التحريضي، فقد طلب رئيس الوزراء حازم الببلاوي من المواطنين التظاهر بطريقة سلمية، مؤكداً أن دعوة وزير الدفاع لا تهدف إلى تناحر المصريين، بل إلى اتحادهم على إقامة دولة مدنية لا دولة دينية. رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يوسف القرضاوي، أصدر من مقره في الدوحة بياناً وصف فيه دعوة السيسي إلى التظاهر بأنها بمثابة «إعلان حرب أهلية». واستغرب صدور البيان عن وزير الدفاع وليس عن رئيس الجمهورية الموقت، كما تقضي أعراف الانقلابات العسكرية. التفسير الذي أعطته قيادة الجيش للخطوة التي أقدم عليها عبدالفتاح السيسي كان يرمي إلى محو الشكوك التاريخية العالقة في أذهان «الإخوان» بأن القوات المسلحة تكمل صورة الانقلاب العسكري الذي دشنه جمال عبدالناصر عام 1952. ومن أجل إبعاد هذه الهواجس المقلقة، تكلم السيسي باسم داعميه من «حزب النور» ومكتب شيخ الأزهر ومحمد البرادعي وممثل حركة «تمرد» وكبار ضباط الجيش وممثل بابا الأقباط. وكان وزير الدفاع قد دعا خلال مراسم الاحتفال بتخريج دفعتين من طلاب الكليتين البحرية والجوية، إلى النزول إلى الشوارع لتفويض الجيش والشرطة بمواجهة «العنف والإرهاب». عقب إعلان التعبئة العامة، أكدت وزارة الخارجية الأميركية تعليق تسليم مقاتلات من طراز «أف-16» إلى مصر، معربة عن قلقها من حصول اشتباكات خلال تلبية دعوة وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي. وقالت المتحدثة باسم الوزارة جين بسكاي إن قرار الرئيس باراك أوباما لقي دعماً بالإجماع من فريق الأمن القومي. والسبب أن واشنطن خائفة من حدوث اشتباكات دموية تُبعِد عن مصر أجواء المصالحة الوطنية، وتدخلها أكثر فأكثر في حالات الاضطراب وانعدام الاستقرار. والثابت أن اعتراض أوباما على عزل رئيس شرعي منتخب ديموقراطياً كان السبب في رفع لافتات في ميدان التحرير كُتِب عليها: «يا أوباما توقف عن تأييد النظام الفاشي للإخوان المسلمين». كما رُفِعت في الوقت ذاته لافتات تطالب بطرد السفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون، لأنها تتدخل في شؤون البلاد الداخلية، وتتصل بقادة «الإخوان». وقد تطرقت السفيرة إلى هذا الشأن أثناء المحاضرة التي ألقتها الشهر الماضي في «مركز ابن خلدون». ولمحت إلى نظرية المؤامرة التي طرحها المشككون في عهد حسني مبارك، وقالت إنهم يحرصون على تفسير أي لقاء كان يتم بين السفارة و «الإخوان» بأنه شهادة على التآمر. وبيَّنت السفيرة للجمهور بأن جميع الدول تحتفظ بعلاقات حسنة مع جهات ليست في الحكم. وأعطت بريطانيا كمَثل على إقامة أفضل العلاقات مع مكاريوس الذي ثار على استعمار لندن لجزيرة قبرص قبل أن يتحول إلى صديق. وفي مناسبة أخرى غمزت من قناة الانقلابيين قائلة: هناك مَنْ يزعم أن الاحتكام إلى الشارع يأتي بنتائج أفضل من صناديق الاقتراع. ورفضت بشكل قاطع هذا المنطق، مؤكدة أن إدارة أوباما تشاركها هذه القناعة. وقد أثارت صراحتها حفيظة عدد من المعلقين الذين انتقدوا صمتها على ارتكابات الرئيس محمد مرسي، وتجاهله لكل القوانين والضوابط الإدارية. كما انتقدوا بشدة اللقاء الذي أجرته مع خيرت الشاطر، نائب رئيس «الإخوان المسلمين»، والزعيم الأكثر هيمنة داخل الحركة. وقيل في حينه إن الشاطر حاول توظيف ذلك اللقاء من أجل إحراج قيادة الجيش، وإيهامها بأن «الإخوان» يقيمون أفضل العلاقات مع الولاياتالمتحدة. ولما ازدادت الحملات الإعلامية ضد السفيرة باترسون لجأت إلى وزير الخارجية جون كيري، طالبة منه شرح الموقف الأميركي حيال حركة «الإخوان المسلمين». وفي دفاعه عن السفيرة، نفى كيري أن تكون تعليمات الخارجية تشجع هذا المنحى. وقال إن مزاعم صحيفة «وول ستريت جورنال» هي التي أحدثت تلك البلبلة بافتراضها خطأ أن الإدارة الأميركية تؤيد وصول الإسلاميين السلفيين إلى الحكم في غالبية الدول العربية. في حين ترى وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، أن المجلة الفصلية «فورين أفيرز» هي التي دشنت هذا الافتراض الخاطئ. ففي عام 2007 نشرت مقالة تحت عنوان «الإخوان المسلمون... معتدلون»، عبّرت فيها عن المزاج العام لدى مقرري السياسة الخارجية الأميركية. ولخصت في عشرين صفحة آراء كبار المسؤولين والكتاب في جماعة «الإخوان»، فإذا بهم ينهون عن فكرة الجهاد والعنف. ولما تناقلت الصحف المصرية والعربية مضمون تلك المقالة، ورد في موقع «الإخوان» على الشبكة العنكبوتية عكس ذلك تماماً. فقد جاء إن الكتابات المقتبسة عن الصحيفة الرسمية التي كان يصدرها مؤسس حركة «الإخوان» حسن البنا، دعت إلى حروب الجهاد من أجل استرجاع أراضي المسلمين في إسبانيا وجنوب إيطاليا ودول البلقان. وفي ملخص للمقالة ظهرت العبارة التالية: ستنتهي مشكلات احتلال العالم، حينما تُرفَع راية الإسلام ويُعلَن الجهاد. يعترف دوري غولد، سفير إسرائيل السابق لدى الأممالمتحدة، أن هذا التصور حول نظرة واشنطن ل «الإخوان المسلمين» ليس بلا أساس تماماً. فقد ظهر أثناء عهد جورج بوش الابن عبر مجموعة من الموظفين كانت ترى «الإخوان» مجرد ملائكة إذا ما قيست أعمالهم بأعمال «القاعدة» والمنظمات الجهادية الأخرى. ولكي تمحو السلطات الجديدة في مصر الصورة المسالمة التي رسمتها إدارة جورج بوش عن الرئيس محمد مرسي وأنصاره، فقد نشرت الوقائع التالية: أولاً - منح الرئيس العفو عن قادة جهاديين كانوا في السجن من أمثال مصطفى حمزة، زعيم منظمة الجماعة الإسلامية الذي اشترك في محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك. ثانياً - أثبتت التحقيقات أن مصطفى حمزة وأعضاء منظمته شاركوا في مذبحة الأقصر (1997) التي قتِل فيها 62 شخصاً. ثالثاً - وعد الرئيس مرسي بالعمل على الإفراج عن الشيخ عمر عبدالرحمن الذي أرشد إلى أول عملية نُفذت في مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993. رابعاً - في شهر آذار (مارس) الماضي، ضغط الرئيس مرسي على الأكاديمية العسكرية المصرية كي تقبل في صفوفها أعضاء ينتمون إلى «الإخوان» وإلى منظمات جهادية متطرفة. ثم تبين أنه يخطط لتحقيق استراتيجية اختراق الجيش النظامي بهدف منع حصول ما حصل. خامساً - كتب جنرال مصري في صحيفة خليجية يقول إن جماعة «الإخوان» ضغطت على وزير الدفاع السيسي ليتغاضى عن عمليات شق الأنفاق التي تصل قطاع غزة بصحراء سيناء. بناء على نصيحة واشنطن، أرسلت دول الاتحاد الأوروبي الممثلة العليا للسياسة الخارجية كاترين اشتون بهدف التوسط في مسألة تعتبرها الدول الغربية بالغة الأهمية نظراً للتداعيات الخطيرة التي سيتركها تمسك «الإخوان» بعودة الرئيس المعزول محمد مرسي. وقد سهلت الحكومة الحالية مهمة اشتون بحيث سمحت لها بمقابلة محمد مرسي على مدى ساعتين. وأعلنت في مؤتمرها الصحافي، الذي عقدته بالاشتراك مع نائب الرئيس للعلاقات الخارجية محمد البرادعي، أن الاتحاد الأوروبي سيواصل جهود الوساطة على أمل إنهاء الأزمة القائمة في مصر. وأعرب البرادعي عن تفاؤله باحتمال إنهاء اعتصامات أنصار مرسي في حال وافقت جماعة «الإخوان» على المشاركة في الحلول السياسية. عقب الفشل الذي منيت به كاترين اشتون، وإصرار عصام العريان، نائب رئيس «حزب الحرية والعدالة» على اجتراح حل مصري يخدم طموحات المصريين... ردّ قادة الحكم الموقت بإصدار سلسلة إجراءات أمنية في مواجهة جماعة «الإخوان المسلمين». وجاء في مقدم تلك الإجراءات قرار النيابة العامة إحالة المرشد العام ل «الإخوان» محمد بديع ونائبيه خيرت الشاطر ورشاد البيومي على محكمة الجنايات بتهمة قتل المتظاهرين. كما جاء في قرار آخر اعتبار اعتصام «الإخوان» في ميداني «رابعة العدوية» و «النهضة» تهديداً للأمن القومي، الأمر الذي فرض تكليف أجهزة الأمن بإنهائه. يُجمع المراسلون في واشنطن على القول إن الإجراءات الأخيرة أزعجت الإدارة الأميركية، وأربكت المسؤولين الذي قرروا التدخل قبل استفحال الوضع وبلوغه نقطة اللاعودة. وللتدليل على امتعاض واشنطن من تهور قرارات السيسي، كلفت وزير الدفاع تشاك هيغل الاتصال بنظيره المصري (أي السيسي) وإبلاغه قرار تعليق تسليم الطائرات الحربية. كما كلفت نائب وزير الخارجية وليم بيرنز بالتوسط لعله ينجح في حل المشكلة مع الجنرالات الجدد في مصر الذين يشرفون على عملية نقل السلطة. والثابت أن غالبية شيوخ الكونغرس قد وافقت على استئناف عملية إرسال المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى مصر، معتبرة أن الخلافات الداخلية ستُحلّ بواسطة القوى الداخلية. وهذا ما شجع الحكم الموقت على التلويح باستخدام القوة لمنع المحرّضين من التعاطي مع المعتصمين. وهذا يعني، في نظر المراقبين، دفع «الإخوان المسلمين» إلى الزاوية ومحاصرة حلفائهم بانتظار مرحلة جديدة يخرج في نهايتها محمد مرسي من عزلته ومن قصر الحكم أيضاً. وبما أن «الإخوان» يشترطون إجراء استفتاء شعبي على بقاء مرسي أو رحيله، فان الحكومة المقنعة ستوافق على إجراء انتخابات نيابية كخطوة أولى، على أن تعهد إلى النواب الجدد مهمة اختيار مرسي أم اختيار سواه. والى أن يحين ذلك الوقت ستظل مصر عرضة للتخبط وعدم الاستقرار! * كاتب وصحافي لبناني سليم نصار في إجازة. ويستأنف الكتابة فور عودته.