يزيد رمضان عن غيره من الشهور بالإمساك في النهار عن الأكل والشرب والشهوة المباحة، أما المحرمات فالإمساك عنها فرض مطلق في جميع الأوقات لا يختص برمضان، ولم يكن للإمساك عن تلك المباحات في نهار رمضان من معنى إلا تقوى الله كما هو نص آية إيجاب الصيام: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وفي صورة الصيام ما يدل على هذا المعنى المقصود، فإن امتناع الصائم عن الأكل والشرب والشهوات المباحة في غيبة الناس كما في حضرتهم فيه ترويض للنفس وتوطين لإرادتها على ملكة الصبر وعلى مراقبة الله سبحانه، فتتربّى على النهوض بالفرائض والاصطبار عليها، ويهون عليها ترك المحرمات والصبرُ عنها، وعلى هذا المعنى مدارُ التقوى. لكن الواقع أن الناس لم يفقهوا من الصيام إلا أحكامه التفصيلية الظاهرة، فانحصرت فيها اهتماماتهم وسؤالاتهم، وانشغلوا بذلك عن تحقيق مقصوده، وشُغلوا بتفريعات أحكامه الظاهرة وتفصيلاتها عن مراعاة حِكمتِه. وتبعت ذلك توابعُ، ترى فيها التناقض المضحك والامتثالَ الصوري الساذَج المشوِّه لجمال الإسلام في أحكامه وشرائعه ولو بنية طيبة بريئة. رأينا التناقض في سلوك بعضِ الصائمين وأخلاقهم، حيث الإمساك مقصوراً على الطيبات، في حين أن المحرمات من دون تأقيت لا يشملها ورعٌ ولا تعفف. ورأينا التناقض في غش بعض الصائمين في تجاراتهم ومعاملاتهم، وقد يبست شفاههم من أثر الصيام، ويبلغ الورع بأحدهم أن يدعَ المضمضة حفاظاً على صيامه. ورأينا التناقض في استطالة بعض الصائمين في أعراض المسلمين، يفريها فرياً، ويأكل لحومهم أكلاً، ثم يبلغ به الورع الكاذب البارد أن يتحاشى بلع ريقه المستطعم بأثر السواك، صيانةً لصيامه، وأصبح طعم السواك في حلقه أشد عليه جُرماً من استطعام أعراض المسلمين! ورأينا التناقض في إضاعة بعض الصائمين للصلاة وهم بعدُ متلبسون بالصيام، وكأنهم لا يدركون من حقيقة الصيام إلا أنه مجرد إمساك عن الأكل والشرب، فلا يرون بأساً ولا حرجاً أن يقطعوا نهار رمضان كلَّه أو أكثرَه بالنوم، ثم يجمعون صلاتي النهار في آخره؛ كما يفعل المنافق الذي عناه النبي في قوله: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان - أي آخر العصر - قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً»، وهانت عليهم الصلاة بقدر ما ثقلت عليه شعيرة الصيام، وصار النوم حيلة ووسيلة لتزجية وقت العبادة وتجاوزِ مشقتها وعنائها، وصار زاداً يتزود به لسهر الليل على الشهوات، ولو أنهم عقلوا حقيقةَ الصيام وغايته لما كان منهم هذا التناقض. ورأينا التناقض في برامج القنوات الفضائية، إذ قرنت المواعظ بدعوات الفحشاء والمنكر، وأردفت البرامج الصالحة بالفجور، ففي أول النهار مواعظُ ورقائق خالصة، وفي آخرِه منكرٌ وفجور، وربما خصّت النهارَ بالجاد المفيد مراعاةً لحرمة الصيام، ثم أطلقت لليله برامج المجون والخنا فلم ترعَ له حرمة. وصور التناقض هذه هي من تبعات الفهم الساذَج لشعيرة الصيام والاشتغالِ بالصيام الصوري عن فهم مقاصد الصيام وتحقيق غاياته. لذا، يجب أن نحيي المعنى المقصود للصيام ونربّي عليه، حتى يراعي الناس حرمةَ معناه كما كانوا يراعون حرمةَ ظاهره وصورته. يجب أن نجعل الآيات والأحاديث المذكّرة بمقصود الصيام هي أولَ ما يسمعه الناس في شأن الصيام (كتب عليكم الصيام... لعلكم تتقون). (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فإن الله لم يشرع الصيام لحاجته إلى أن ندع الطعام والشراب، وإنما شرع الصيام من أجل أن نتقوى به على ترك قول الزور - الذي هو كل منكر - والعمل به. يجب أن يتربى صغارنا وينشأوا على هذا الفقه العظيم: فقه مقاصد العبادة، وأن يفقهوا أن مراعاة مقاصدها لا يقتضي تهاوناً في التزام ظاهرها، وأن التزام ظاهرها على وجهه ليس بالضرورة أن يحقق مقصود العبادة ما لم يراعِ المرءُ حرمته أن تنتهك بأعمال تناقض العبادة، وإن كانت لا تفسد ظاهرها كالغيبة والغش والخديعة وسوء الخلق. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]