الثورة الشعبية الواسعة التي قامت ضد مرسي في الثلاثين من حزيران (يونيو) وأسقطته في الثالث من تموز (يوليو)، تشير بوضوح إلى تغير كبير في المزاج العربي، ونفاد الصبر الذي أصبح سمة سائدة عند الشعوب العربية منذ اندلاع الربيع العربي أواخر 2010. كما تشير إلى فشل الرئيس المعزول في أن يفهم هذا التغيّر في مزاج شعبه، ويمتثل لإرادة الملايين الذين تظاهروا ضده. إن الشعوب العربية التي تحملت صدام حسين طوال خمسة وثلاثين عاماً ومعمر القذافي لأربعين عاماً وصبرت على مبارك لثلاثين عاماً وزين العابدين بن علي لثلاثة وعشرين عاماً ولم تنفر من حكم علي عبدالله صالح لأربعة وثلاثين عاماً، لم تعد تتحمل أمثال محمد مرسي لعام واحد، بعدما بدا كأنه يريد تكرار تجربة أسلافه وربما يفوقهم فردية وتعسفاً. اكتشفت الجماهير سر قوتها الكامنة ولم تعد قادرة على الانتظار عشرات السنين كما كانت تفعل في السابق. إنها رسالة مدوية، ومن يتجاهلها من الحكام العرب لا بد أنه مصاب بالصمم، ومن لم يفهمها فهو حقاً يعيش في برج عاجي، وقد يلقى مصيراً كمرسي أو ربما أسوأ. وما زاد استياء المصريين من سياسات مرسي التي اعتبروها حزبية وديكتاتورية ومُفرِّقة، أنهم هم الذين أتوا به إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع وشعروا بأن من حقهم أن يزيلوه في أي وقت يشاؤون، من دون أن ينتظروا موعد الانتخابات المقبلة بعد ثلاث سنوات. فإن كان مبارك، ومن قبله السادات وعبدالناصر، فرضوا سلطتهم على شعوبهم بقوة السلاح ودعم القوات المسلحة، فإن مرسي جاء بإرادة شعبية ويجب أن يغادر عبرها أيضاً. هناك الآن انتخابات حقيقية تجرى في كثير من البلدان العربية، خصوصاً بلدان الربيع العربي، لاختيار الرؤساء وأعضاء البرلمان الذين يصادقون على الحكومات، وقد أصبح لزاماً على هؤلاء المنتخبين أن يفهموا الدرس المصري جيداً. فإن كان التونسيون علّموا العرب أن إزالة الأنظمة الديكتاتورية ممكنة عبر الاحتجاج والتظاهر السلمي المتواصل، فإن المصريين علّموهم في الثلاثين من يونيو أن في الإمكان إزالة حتى الحكومات المنتخبة عبر التظاهر السلمي الواسع، فإن لم يفلِح، فعبر تضافر قوى الشعب والجيش. لم يعد التمسك بالسلطة ممكناً في ظل الوعي الجماهيري الكاسح وتطور وسائل الإعلام والاتصال وانتشارها، وسهولة الحصول على المعلومات ووجود المجتمع الدولي الذي يمكن أن يساند الشعوب ويقف معها حتى عسكرياً. المحكمة الجنائية الدولية ستتدخل إن رأت تجاوزاً لحقوق الإنسان، كما حصل في بلدان أخرى، ومن حق الأممالمتحدة أيضاً أن تتدخل وفق بنود الفصل السابع إن كانت هناك تجاوزات لحقوق الإنسان كما حصل في العراق الذي ما زال يرزح تحت وطأة الفصل السابع، على رغم إعلان حكومته خروجه منه الشهر الماضي، واحتفالها بذلك. لقد أدركت الشعوب العربية حجم الهوة بينها وبين الشعوب الأخرى وتريد الآن أن تلحق بركب التقدم العالمي بأسرع وقت ممكن، وتعرف جيداً أن سبب هذه الهوة وهذا التخلف هو ضعف النظام السياسي الذي لا يسمح بالتنافس الحر بين السياسيين من أجل النهوض بالمجتمع. أصبح هذا واضحاً جداً عند الإنسان العربي العادي، والفضل يعود إلى تقدم وسائل الاتصال والإعلام التي عوّضت كثيراً عن نقص في التعليم، عانت منه شعوبنا. هناك الآن مثقفون وكتاب وسياسيون وفنانون لم يمروا بمراحل التعليم التقليدية بل تمكنوا من تعليم أنفسهم بأنفسهم، وهذا لم يكن متاحاً في السابق. الزعيم الحاذق هو الذي يتمكن من تقديم إنجاز ملموس لمجتمعه، فإن لم يتمكن فإن أفضل إنجاز يمكنه تقديمه لبلده هو الانسحاب ومغادرة السلطة. إن لم يغادر طوعاً، سيُرْغَم على ذلك بالقوة، أو قد يتسبب في شق مجتمعه وإضعاف بلده وإشعال حرب أهلية ستنتهي بخروجه من السلطة مدحوراً في النهاية. ثمن البقاء في السلطة من دون أن يكون هناك سبب غير الخدمة، أصبح باهظاً لكن بعض قادتنا ما زالوا يفكرون وفق المنطق القديم ويوهمون أنفسهم أن بإمكانهم البقاء عبر المناورة أو اللعب على التناقضات المحلية أو الدولية. ما زال الرئيس المخلوع محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين يتصورون أن بإمكانهم العودة إلى السلطة عبر إلغاء ما حصل في 30 يونيو. لقد فشلوا في إيجاد الحلول لمشاكل مصر وإقناع المصريين بصلاحية نهجهم السياسي أثناء وجودهم في السلطة وعندما كانوا يمسكون بزمام الأمور، فكيف يتوقعون أن بإمكانهم العودة إليها بعدما خرجوا منها مهزومين على أيدي غالبية الشعب المصري التي يساندها الجيش؟ إن تجاهل الواقع والتحليق في عالم الخيال هو الذي يقود إلى الإيمان بالمعجزات وهذا ما ينتظره الإخوان في مصر كما يبدو، ولهذا يستمرون في احتجاجاتهم في ميدان رابعة العدوية. إن كانوا ليسوا طلاب سلطة، كما يدعون، فليبرهنوا على ذلك عبر الانخراط في الوضع الجديد ومراجعة أخطائهم والتعلم منها. وإن أرادوا السلطة عبر الطرق الديموقراطية فمطلوب منهم أن يغيّروا نهجهم الإقصائي الذي قادهم إلى الخروج منها. ما زال الإخوان المسلمون يشكلون قوة لا يستهان بها في مصر، وسيتمكنون من العودة إلى السلطة إن بقي خصومهم السياسيون متفرقين. إن كان الجيش ساعد في التخلص من حكمهم هذه المرة، فعلى خصومهم السياسيين ألا يتوقعوا أن هذه الفرصة ستتكرر. فقد يلعب الجيش دوراً كالذي يلعبه الجيش التركي حالياً، والذي تقبّل وجود الإسلاميين وائتمر بأمرهم وتخلى عن دوره السابق في إعادة العملية السياسية إلى مسارها العلماني.