بعد مفاجأة وقوف قيادة الجيش المصري إلى جانب ملايين المصريين وتنفيذ أمنيتهم التخلص من الرئيس المنتخب محمد مرسي، تركزت التحاليل الديبلوماسية على فهم ما يجري في الساحة المصرية قبل الخروج ببيانات رسمية تخلِط النقد والتشجيع. وانطلق سيل التساؤلات حول العواقب التي تترتب على تنحية مرسي وبخاصة المناوشات بين نشطاء «الإخوان» وقوات الأمن والجيش. وبدا السؤال بديهياً «إن كانت مصر في بداية السيناريو الجزائري في مطلع التسعينات؟» حين أوقف الجيش الشعبي مسار الانتخابات العامة في 1991 قبل ستة ايام فقط من تنظيم الدورة الثانية على أثر فوز جبهة الإنقاذ الاسلامية بأكثرية المقاعد (188 مقعداً) في الدورة الأولى في 1990. وشكلت عملية التدخل العسكري في الجزائر صدمة للعواصم الأوروبية وفي مقدمها باريس. وكانت منطلقاً لتفجر حرب دامت عقداً كاملاً بين الجيش الجزائري والمجموعات المسلحة وكلفت البلاد نحو 200 ألف قتيل دون المفقودين والجرحى ودمار البنية التحتية. رأت ردود الفعل الأوروبية الأولى وغير المعلنة في ما حدث ليل الثلثاء - الأربعاء 2-3تموز (يوليو) وإعلان القوات المسلحة خريطة طريق للبلاد «انقلاباً» على رئيس يستمد شرعيته من صناديق الاقتراع وتساءلت إن كانت مصر ستغرق في محنة قد لا تبعدُ عن معاناة الجزائر في التسعينات؟ وهل ستكون عرضة لضغوط شديدة من جانب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وربما هدفاً لعقوبات اقتصادية وسياسية؟ وتداعيات ما يجري في مصر على الصعيد الإقليمي وبالذات في تونس حيث يحكم الاسلاميون بالتحالف مع حزبين صغيرين علمانيين. بعد ان التقت إدارة «الإخوان» في مصر وحزب «النهضة» في تونس في عدم البحث الجدي عن الوفاق الوطني، والخلط بين الايديولوجيا (الدين) والسياسة في إدارة الحكم، وعدم الانفتاح على خبرات يزخر بها المجتمع لأن ولاءها قد لا يكون للفكر الإخواني. وبعد إجراء مشاورات مكثفة، عقب إعلان وزير الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي، صدرت البيانات الأوروبية متفاوتة إلى حد ما بين «الأخذ علماً» بما جرى (فرنسا) ودعوة الاتحاد في بيان كاثرين آشتون الى «العودة سريعاً إلى المسار الديموقراطي من خلال تنظيم انتخابات نزيهة وحرة وشاملة». لكن المواقف خلت من وصف «الانقلاب العسكري» أو من عبارات الشجب والإدانة. كما خلت طبعاً من عبارات المساندة المباشرة للتغيرات التي طرأت. وقال الرئيس فرانسوا هولاند خلال زيارته تونس: «المهم الآن ان يقوم الجيش المصري الذي تحمل مسؤولية إزاحة الرئيس المنتخب بتنظيم انتخابات في أقرب وقت ممكن تقوم على التعددية والحريات وخصوصاً حرية الصحافة». وذكّر حلف شمال الأطلسي من ناحيته بأن مصر تعد شريكاً مهماً له في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط وتضطلع ايضاً بدور حيوي في منطقة الشرق الأوسط. ولم يتوقف الحلف عند أحد المبادئ الأساسية في مبادرة الحوار المتوسطي التي تجمع بينه وبين كل من دول جنوب شرقي المتوسط باستثناء لبنان وسورية. ويتمثل المبدأ في «عدم تدخل الجيش في السياسة». وتتم مناقشة هذا المبدأ في الدورات التدريبية التي ينظمها الحلف في أكاديمية روما حيث يشارك فيها ضباط من دول المنطقة، منها مصر. وتفادى الأمين العام اندرس فوغ راسموسن الحكم على ما جرى في مصر ودعا في مؤتمر صحافي يوم الخميس 4 تموز في بروكسيل «كل الأطراف الى ضبط النفس والتحفظ عن العنف واحترام حقوق الانسان منها حقوق الأقليات وسلطة القانون والعمل من أجل تشكيل حكومة ديموقراطية ومدنية تمثل كل أطياف المجتمع في أقرب وقت ممكن». دعم التغيير وبعد اسبوع على إقالة الرئيس مرسي وبدء تنفيذ خريطة الطريق وازدياد الاصطفاف في الساحة السياسية المصرية، رأى المبعوث الأوروبي لدول «الربيع العربي» أن «حرباً دعائية حقيقية تجري منذ فترة بين معسكرين» حالت دون توصلهما إلى حلول وسط. وقال بيرنارديون ليون أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي الثلثاء 9 تموز (يوليو) إن مفهوم تقسيم الساحة السياسية بين اسلاميين وليبراليين غير صحيح، لأن المعسكر الليبرالي يضم أحزاباً اسلامية مثل حزب مصر القوية وحزب النور. «وقد أبلغت مئات المنظمات الحقوقية المحاورين الأوروبيين دعمها التغيير في مصر ورفضها وصفه بالانقلاب العسكري». ويحضر بيرنارديونو ليون في مصر في شكل شبه دائم حيث يواكب سير الحوار مع مختلف القوى، خصوصاً أثناء الأحداث الأخيرة ويحرص على إبداء موقف «محايد». وحذر في الحديث إلى النواب من «محاولة الأطراف في مصر استخدام موقف الاتحاد لأغراض حزبية». وقال ل «الحياة» إن «الحل لا يكمن في تغيير حكومة يترأسها الاسلاميون بحكومة ليبرالية وإنما في ايجاد وفاق بين الجانبين وفي عدم ضلوع القوات المسلحة في المسار السياسي». ونقل ايضاً أن الاجتماعين الأخيرين بين الرئيس المعزول محمد مرسي ومنسقة السياسة الخارجية كاثرين أشتون شهدا «نقاشات حادة» حيث كان الأول «يوافق على مقاربة الاصلاح لكنه لا يتخذ القرارات اللازمة». وعقّب ممثلو المجموعات السياسية في البرلمان على التغيرات في مصر. وقالت آنا غومين (الحزب الاشتراكي الأوروبي) إن «الديموقراطية لا تقتصر على تنظيم الانتخابات وإفراز سلطة شرعية لكن الانتخابات تظل المحطة الأساسية لاختيار هذه السلطة»، وحذرت انيمي نيتز (الحزب الليبرالي) من «خطر انزلاق مصر في سيناريو شبيه بما عرفت الجزائر»، وقال شارل تانوك (حزب المحافظين) «بوجوب تفادي الفوضى وأن الشعب قد رفض حكماً ثيوقراطياً». وكان رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان ارنود دانجون أكثر وضوحاً، حين قال ان «الإخوان المسلمين يمتلكون أجندة، وقد اكتشفنا الموقع المركزي الذي تحتله القوات المصرية في البلاد»، وانتقد تصريحات «سطحية» صدرت عن بعض المسؤولين الأوروبيين في وصف ما حدث بالانقلاب، وقال: «هناك حالات يكون فيها التدخل العسكري أفضل السبل، ولا أعتقد أن القوات المسلحة في مصر تريد البقاء في السلطة». وبذلك تكون المواقف الأوروبية إزاء التغيرات في مصر مختلفة تماماً عن الانتقادات الحادة التي استهدفت الجزائر في مطلع التسعينات. كما فندت المفوضية، غداة تنحية محمد مرسي، افتراضات التراجع عن دعم المسار السياسي في مصر بخاصة بعد تسلم المدنيين قيادة البلاد. وهي بذلك لا تدير الظهر لمصر مثلما كانت فعلت في حق الجزائر المثقلة في حينه بالديون الخارجية التجارية. ولا يزال الجزائريون يتحدثون بمرارة عن تأخر فرنسا وأوروبا في شكل عام عن مد يد العون بينما كانت بلادهم تقارب حافة الإفلاس وتواجه في الوقت نفسه حرباً حقيقية مع الجماعات المسلحة. لكن الوضع يختلف اليوم في شأن مصر حيث تخوض محنة غير مسبوقة وسيكون المخرج منها عبرة ربما يُقتدى بها بالنسبة الى الدول التي يدير شؤونها الاسلاميون، بخاصة تونس، من دون دراية كاملة وخبرة كافية بشؤون الدولة. وقال المتحدث الرسمي الأوروبي مايكل مان إن «لا نية للاتحاد لمراجعة خطة المساعدات المقررة». لكن الجزء الكبير منها المتصل بدعم الموازنة لا يزال مرتبطاً بشرط الاتفاق المسبق بين مصر وصندوق النقد الدولي. ويقدم الاتحاد الأوروبي معونات لمصر في نطاق اتفاقية الشراكة بينهما تبلغ قيمتها 449.3 خلال الفترة 2011-2013 من أجل تمويل برامج الاصلاح السياسي والحكم الرشيد وتعزيز القدرة التنافسية للمؤسسات الانتاجية والمشاريع الاجتماعية. ولم يبخل الاتحاد الأوروبي على مصر تحت حكم الإخوان حيث نظم في الخريف الماضي مؤتمراً دولياً في القاهرة وعد فيه المشاركون من مؤسسات دولية والقطاع الخاص بتوفير مساعدات وقروض بقيمة 4 بلايين دولار. لكن الوعد لم ينفذ بسبب عدم جاهزية الادارة المصرية وعدم إبرام الاتفاق بينها وبين صندوق النقد الدولي. اللحظات الحرجة وتحدثت مصادر ديبلوماسية الى «الحياة» عن متابعة اللحظات الحرجة، عبر شبكات التلفزيون لأن «ملحمة سياسية كانت تجري أمام عيون العالم». فالقوات المسلحة أقالت الرئيس المنتخب وأحاطت نفسها بالزعامات الدينية والمدنية والمحكمة العليا في إعلان خريطة طريق ستعيد البلاد إلى المسار الانتقالي بقيادة مدنية. وكانت مشاهد ميادين التحرير وقصر الاتحادية وغيرها تعكس صور الالتحام بين ملايين المتظاهرين والقوات المسلحة. وذكر المصدر نفسه أن المشاورات بين العواصم الأوروبية دامت ست ساعات قبل إعلان آشتون البيان الرسمي حيث دعت المصريين العودة إلى المسار الديموقراطي في أقرب وقت ممكن. وتخللت المشاورات مكالمة هاتفية بين آشتون والدكتور محمد البرادعي. وأوجز ديبلوماسي رفيع الموقف الأوروبي بأنه «مزيج من الحزم، حيث لا يقبل الأوروبيون من الناحية المبدئية تدخل العسكر في الحياة السياسية، ومن التشجيع لتحفيز القوى المدنية وغير المدنية على وضع البلاد في سكة المسار السياسي من دون تأخر». الأوروبيون والغرب في شكل عام لديه مفهوم قانوني تقني يجعل صندوق الاقتراع «شبه مقدس» لأنه يفرز خيارات الناخبين. لذلك، فإن إزاحة الرئيس مرسي كانت مثيرة وقابلها الكثير من المحللين في كبريات الصحف الغربية بالنقد. والأهم أن المسؤولين في بروكسيل وغيرها من عواصم الاتحاد لم يغفلوا معطيات الوضع المتدهور في مصر ومخاطر انزلاقها تدريجاً، تحت حكم «الإخوان» في حرب انقسامات سياسية وطائفية في ظل انهيار اقتصادي واجتماعي. وقال ديبلوماسي عربي ل «الحياة» إن الخبراء الأوروبيين يلمّون بتفاصيل الوضع الدقيقة في مصر. ويعتمدون في ذلك على حضور منتظم لممثلي كل دول الاتحاد، إضافة إلى سفارة الاتحاد في القاهرة حيث يعمل فيها مباشرة أو من طريق المشاريع نحو مئة بين ديبلوماسيين ومتعاقدين. وقال ديبلوماسي اوروبي رفيع ل «الحياة»: «واجهنا صعوبات في التحاور مع الرئيس مرسي في مسائل قسَّمت الشعب المصري» بخاصة في مسألة الدستور وحقوق الأقليات الدينية. ونأمل ألا تؤدي التغيرات إلى تفجر العنف في المدى المتوسط، وأن يتم حصر ما يجري في الأيام الجارية ضمن مناوشات وضع ساخن». وقد يكون الأوروبيون رصدوا منذ فترة قرب انهيار سلطة الرئيس محمد مرسي بحكم نقص الانجازات من ناحية واتساع الهوة من ناحية أخرى بين معسكر الاسلام السياسي والفصائل المتنوعة والمنضوية تحت مظلة جبهة الإنقاذ. وطالب تقرير أصدرته المفوضية في الربيع الماضي حول مدى تنفيذ مصر الاصلاحات المتفق حولها السلطات المصرية «بتنظيم حوار شامل بين جميع الأطراف السياسيين والجهات الفاعلة الأخرى بمن فيهم الزعماء الدينيون لضمان اعتراف جميع المصريين بالدستور وأن يكرس هذا الأخير الاحترام لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، ولا سيما الحفاظ على الحريات الدينية وحماية الأقليات، تنظيم انتخابات برلمانية نزيهة وشفافة ضمن الجدول الزمني المقرر بمشاركة بعثات أجنبية لمراقبة الانتخابات، الوقف التام لاستخدام المحاكم العسكرية لمقاضاة المدنيين، تهيئة الظروف المواتية لتجمع المنظمات غير الحكومية النشط والمستقل واعتماد تشريعات تتعلق بالمنظمات غير الحكومية، تتماشى مع المعايير الدولية، إيلاء اهتمام خاص لحماية حقوق المرأة والمساواة بين المرأة والرجل، تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يضمن استقرار الاقتصاد الكلي ويعزز الإدارة المالية العامة بما يتماشى مع المعايير الدولية»... ملاحظات التقرير الأوروبي صيغت بأسلوب ديبلوماسي، لكنها كانت بمثابة تحذير في اتجاه حكومة الرئيس محمد مرسي من أن المعونات لا تجد طريقها إلى مصر بسبب عدم تنفيذ الاصلاحات. والنتيجة أن الوضع بلغ حداً لا يطاق بالنسبة الى الملايين الذين احتشدوا في الشوارع في 30 حزيران (يونيو) 2013. ولم يكن أمام القوات المسلحة المصرية من خيار سوى التدخل والحؤول دون المواجهة بين المصريين.